الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وغيرها من الآي التي تضمنها ذكر الصلاة ، فقد اختلف أصحابنا في جملة العلماء : هل ذلك من المجمل الذي لا يعقل معناه إلا بالبيان ؟ أو هو ظاهر معقول المعنى ؟ قيل : ورود البيان على وجهين :

أحدهما : من المجمل المفتقر إلى البيان في معرفة المراد به ، لأن مجرد اللفظ لا يدل عليه ، والبيان لا يستغنى عنه

والوجه الثاني : إن لهذا اللفظ ظاهرا يعقل معناه ما لم يرد البيان بالعدول عنه ، أو باستعمال شروط فيه : لأن القرآن نزل بلسان عربي تحدى الله به العرب ، فلو كان فيه ما ليس بمعقول المعنى لأنكروه ، ثم اختلفوا في الاسم : هل جاء به الشرع كما جاء ببيان الحكم أو كان معروفا عند أهل اللسان ، والشرع المختص ببيان الأحكام على ثلاثة مذاهب :

أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث الأسماء شرعا ، كما بين الأحكام شرعا ، لأنه لما جاز أن يرد الشرع بما لم يكن عبادة من قبل افتقر ما ورد به الشرع إلى أسماء مستحدثة بالشرع ، وهذا قول من زعم أن اسم الصلاة مجمل ، فجعله مستحدثا بالشرع ، لأن العرب لم تكن تعرفه على هذه الصفة

والمذهب الثاني : أن الشرع مختص بورود الأحكام ، فأما الأسماء فمأخوذة من أهل اللغة واللسان : لأن الأسماء لو ردت شرعا لصاروا مخاطبين بما ليس من لغتهم ، ولخرج [ ص: 10 ] القرآن كله من أن يكون بلسان عربي مبين ، وقد قال تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية [ الأنفال : 35 ] . فأخبر أنهم كانوا يصلون ويعتقدونها عبادة وإن كانت مكاء وتصدية

والمكاء : الصفير ، وفي التصدية تأويلان :

أحدهما : التصفيق ، وهو قول ابن عمر ، وابن عباس

والثاني : الصد عن البيت ، وهو قول سعيد بن جبير ، وابن زيد ، وهذا مذهب من زعم أن اسم الصلاة ظاهر وليس بمجمل

المذهب الثالث : وهو مذهب جمهور أهل العلم وكافة أهل اللغة ، أنها أسماء قد كان لها في اللسان حقيقة ، ومجاز فكان حقيقتها ما نقلها الشرع عنه ، ومجازها ما قررها الشرع عليه لوجود معنى من معاني الحقيقة فيها ، فعلى هذا اختلفوا في المعنى الذي لأجله سميت الصلاة الشرعية صلاة على ستة أقاويل :

أحدها : وهو أشهرها أنها سميت صلاة لما يتضمنها من الدعاء ، والذي هو مسمى في اللغة صلاة ، قال الله تعالى : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [ التوبة : 103 ] . أي ادع لهم ، وقال الأعشى :

تقول بنتي وقد قربت مرتجلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا     عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
يوما فإن لجنب المرء مضطجعا

والقول الثاني : أنها سميت صلاة لما يعود على فاعلها من البركة في دينه ودنياه ، والبركة تسمى صلاة . قال الشاعر :


وصهباء طاف يهوديها     وأبرزها وعليها ختم
وقابلها الريح في دنها     وصلى على دنها وارتسم

يعني : أنه دعا لها بالبركة

والقول الثالث : أنها سميت صلاة لأنها تقضي إلى المغفرة التي هي مقصود الصلاة ، ومقصود الشيء أحق بإطلاق اسمه عليه مما ليس مقصودا فيه ، والمغفرة والاستغفار يسمى صلاة . قال الله تعالى : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة [ البقرة : 157 ] . يريد بصلوات الله : المغفرة ، لأنه ذكر بعدها الرحمة . قال الشاعر :


صلى على يحيى وأشياعه     رب كريم وشفيع مطاع

[ ص: 11 ] ولذلك سميت الصلاة استغفارا . قال الله تعالى : والمستغفرين بالأسحار يعني : المصلين

والقول الرابع : أنها سميت صلاة ، لأن المصلي إذا قام بين يدي الله تعالى في الصلاة ، فأصابه من خشيته ومراقبته ما يلين ويستقيم اعوجاجه ، مأخوذ من التصلية ، يقال : صليت العود . إذا لينته بالنار فيسهل تقويمه من الاعوجاج :

قال الشاعر :


ولكنما صلوا عصا خيزرانة     إذا مسها عض الثقاف تلين

والقول الخامس : أنها سميت صلاة ، لأن المصلي يتبع فعل من تقدمه ، فجبريل أول من تقدم بفعلها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم تابعا له مصليا ، ثم المسلمون بعده

قال الشاعر :


أنت المصلي وأبوك السابق

القول السادس : أنها سميت صلاة وفاعلها مصليا ، لأن رأس المأموم عند صلوى إمامه ، والصلوان عظمان عن يمين الذنب ويساره في موضع الردف . قال الشاعر :


تركت الرمح يعمل في صلاه     ويكبوا للترائب والجبين

التالي السابق


الخدمات العلمية