الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت أن الزوال معتبر بما وصفنا فالناس ضربان :

أحدهما : بصير قادر على الوصول إلى علم الزوال ، فعليه أن يتوصل إلى علم الزوال بنفسه ، ولا يسعه أن يقلد غيره ، لأنه مما يستوي البصراء فيه فلم يسع بعضهم تقليد بعض ، كالقبلة فإن كان غيما راعى الشمس محتاطا ، فإن بدا له ما يدل على زوالها وإلا تأخى مرور الزمان حتى يتيقن دخول الوقت ، ثم يصلي ، فلو سمع المؤذن لم يسعه تقليده حتى يعلم ذلك بنفسه ، إلا أن يكون المؤذنون عددا في جهات شتى لا يجوز على مثلهم الغلط والتواطؤ ، فهذا مما يقع به العلم ، فيجوز له قبولهم في دخول الوقت ، وقال بعض أصحابنا : يجوز تقليد المؤذن في الوقت إذا كانت السماء مصحية ، ولا يجوز تقليده إذا كانت السماء مغيمة ، قال : لأنه في الصحو يخبر عن نظر ، وفي الغيم يخبر عن اجتهاد ويستوي فيه المخبر والمخبر . والأول مذهب الشافعي : لما استشهدنا به من حال القبلة ، فلو خفي عليه الزوال فاجتهد وصلى ، ثم بان له مصادفة الوقت أو ما بعده أجزأه إما مؤديا في الوقت ، أو قاضيا بعد الوقت ، وإن بان له تقدمه على الوقت لم يجزه وأعاد

فإن قيل : أليس من بان له يقين الخطأ في القبلة لم يلزمه الإعادة في أحد القولين فهلا كان الخاطئ في الوقت مثله ؟ قيل : الفرق بينهما في وجهين :

أحدهما : أن الوصول إلى يقين الوقت ممكن بالصبر إلى يقين دخول الوقت ، وتبين القبلة لا يمكن إلا بالمصير إليها ، فالمصير إلى نفس القبلة غير ممكن

والثاني : أن الخاطئ في الوقت فاعل للصلاة قبل وجوبها فلم يجزه ، والخاطئ في القبلة فاعل لها بعد وجوبها فأجزأه ، ولو لم يبن له بعد الاجتهاد صواب ولا خطأ أجزأه ، ولكن لو ابتدأ بالصلاة شاكا في زوال الشمس لم يجزه ، وإن بان له بعد زوالها ، لأن أداء الصلاة بالشك غير مجزئ

فإن قيل : أليس لو أفطر شاكا في غروب الشمس ثم بان له غروبها أجزأه ، فهلا كان إذا صلى شاكا في زوال الشمس ثم بان له زوالها أجزاه ؟

قيل : الفرق بينهما أن الصائم يكون مفطرا بغروب الشمس ، وإن لم يأكل ، ولا يكون مصليا بدخول الوقت حتى يصلي

والضرب الثاني : أن يكون ضريرا ، أو محبوسا لا يقدر على معرفة الزوال بنفسه ، فهذا يجوز له أن يقلد في دخول الوقت غيره من البصراء الثقات واحترز مع قوله : دخول الوقت ، [ ص: 14 ] كما يجوز له إن كان ضريرا أن يقلد في القبلة بصيرا ، فإن لم يجد بصيرا يقلده في الوقت فاجتهد لنفسه وصلى ، أجزأه إذا لم يبن له بعد ذلك التقدم على الوقت ، فإن قيل : أليس الضرير إذا عدم بصيرا يقلد في القبلة فصلى باجتهاد نفسه لم يجزه وإن أصاب ، فهلا إذا اجتهد لنفسه في الوقت أن لا يجزئه وإن أصاب ؟ قيل : الفرق بينهما أن تعين الوقت معلوم بمرور الزمان فأجزأه لاستواء البصير والضرير فيه ، والقبلة مدركة بحاسة البصر فلم يجزه لاختلاف الضرير والبصير فيه ، والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية