الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 23 ] مسألة : قال الشافعي : " فإذا غاب الشفق الأحمر فهو أول وقت العشاء الآخرة والأذان "

قال الماوردي : يكره أن تصلى هذه الصلاة باسم العتمة ، ويستحب أن تسمى عشاء الآخرة لرواية الشافعي عن سفيان ، عن أبي لبيد ، عن أبي سلمة ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم هي العشاء إلا أنهم يعتمون بالإبل

والعتم : الإبطاء والتأخير ، وإعتام الإبل هو تأخير علفها وحلبها . قال الشاعر :


فلما رأينا أنه عاتم القرى بخيل ذكرنا ليلة الهضب كردما

ولا يأثم مسميها بالعتمة ولا يستحق وعيدا به ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه نهي تحريم ، وإنما قال : " لا يغلبنكم الأعراب عليها " ، وإذا كان كذلك فأول وقت عشاء الآخرة إذا غاب الشفق إجماعا ، إلا أنهما شفقان : الأول وهو الحمرة ، والثاني وهو البياض ، واختلفوا هل يدخل وقتها بغيبوبة الشفق الأحمر أو بغيبوبة الشفق الأبيض ؟ فذهب الشافعي إلى أن وقتها يدخل إذا غاب الشفق الأحمر ، وهو في الصحابة قول عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وعبادة بن الصامت ، ومن التابعين قول عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والزهري ، ومكحول ومن الفقهاء قول مالك ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وأحمد ، وإسحاق ، وذهب أبو حنيفة إلى أن دخول وقتها يكون بغيبوبة الشفق الأبيض ، وبه قال الأوزاعي ، والمزني ، استدلالا بقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل [ الإسراء : 78 ] . يعني : إظلامه ، وذلك لا يكون إلا بغيبوبة البياض ، ولما روى بشير بن أبي مسعود عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عشاء الآخرة حين يسود الأفق ، ولأن صلاة العشاء تتعلق بغارب وصلاة الصبح بطالع ، فلما وجبت الصبح بالطالع الثاني اقتضى أن تجب العشاء بالغارب الثاني ، واستدل المزني : أن الصبح أول صلاة النهار والعشاء آخر صلاة الليل ، فلما وجبت الصبح بالبياض المتقدم على الشمس اقتضى أن تجب العشاء بالبياض المتأخر عن الشمس

ودليلنا : حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وصلى بي جبريل العشاء حين غاب الشفق وحمل إطلاقه على الأحمر أولى من وجهين :

أحدهما : أن الحكم إذا علق باسم اقتضى أن يتناول أول ما ينطلق عليه أول ذلك الاسم

[ ص: 24 ] والثاني : أن الاسم إذا تناول شيئين على سواء كان حمله على أشهرهما أولى ، والأحمر من الشفقين أشهر في اللسان ، والعرب تقول : صبغت ثوبي شفقا ، وقيل : في قوله تعالى : فلا أقسم بالشفق [ الانشقاق : 16 ] . أنه الحمرة . قال الشاعر :


رمقتها بنظرة من ذي علق     قد أثرت في خدها لون الشفق

وروى حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال : أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة ، صلاة العشاء الآخرة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثلاثة " . ومعلوم أن القمر يسقط في الثالثة قبل الشفق الأبيض

وروى سليمان بن موسى عن عطاء ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق ، وبالإجماع أنها لا تجوز قبل الأحمر فثبت أنه صلاها بعد الأحمر وقبل الأبيض

وروى مالك عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق فقد وجبت الصلاة والشافعي رواه موقوفا عن ابن عمر وقد أسنده غيره ، ولأن إجماع أهل الأعصار في سائر الأمصار أنهم على إقامتها عند سقوط الأحمر لا يتناكرونه بينهم ، ولا يختلفون في فعله مع اختلافهم ، ولأن الشفق الأبيض قد روعي في بعض الأزمان وبعض البلدان فوجد لابثا إلى طلوع الفجر ، فروي عن الخليل بن أحمد أنه قال : راعيته فلم يغب حتى طلع الفجر . وكان يتنقل من جو إلى جو ، وحكى أبو عبيد عمن حدثه إذا راعاه في جبال اليمن ، فلم يغب حتى طلع الفجر ، وإذا كان الأبيض بهذه الحال لم يجز أن يكون وقتا لصلاة ، ولأن الطوالع ثلاثة الفجران ، والشمس ، والغوارب ثلاثة الشفقان ، والشمس ، فلما وجبت صلاة الصبح بالطالع الأوسط وهو الفجر الصادق اقتضى أن تجب العشاء بالغارب الأوسط - وهو الشفق الأحمر - ولأن صلاة الصبح من صلاة النهار وصلاة العشاء من صلاة الليل ، فلما وجبت الصبح بأقرب الفجرين من الشمس ، اقتضى أن تجب العشاء بأقرب الشفقين من الشمس ، ولأنها صلاة تجب بانتقال أحد النيرين فوجب أن تتعلق بأنورهما كالصبح

وأما الآية فتأويل الغسق مختلف فيه فأحد تأويليه أنه إقبال الليل ودنوه ، فسقط الدليل بهذا التأويل [ ص: 25 ] والثاني : أنه اجتماع الليل وظلمته ، فعلى هذا قد يظلم الليل إذا غاب الشفق الأحمر ، أو يحمل على وقتها الثاني ، وكذا الجواب عن اسوداد الأفق ، وأما استدلالهم فمدفوع بمعارضتنا له بما ذكرنا من استدلالنا - والله أعلم بالصواب -

التالي السابق


الخدمات العلمية