الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ولا أذان إلا بعد دخول وقت الصلاة خلا الصبح فإنها يؤذن قبلها بليل ، وليس ذلك بقياس ولكنا اتبعنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم : إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم

قال الماوردي : وهذا كما قال لا يجوز الأذان لشيء من الصلوات قبل دخول وقتها إلا الصبح ، فإنه يجوز أن يؤذن لها بليل قبل الفجر وبعد نصف الليل ، وبه قال مالك ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة ، والثوري : لا يجوز الأذان لها إلا بعد دخول وقتها لرواية شداد عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تؤذن حتى يستنير لك الفجر هكذا ومد يديه عرضا

وروى أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرجع فينادي : ألا إن العبد قد نام . فرجع فنادى ألا إن العبد قد نام

وروى أنس بن مالك أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرقى فينادي ألا إن العبد قد نام . فرقا وهو يقول :

ليت بلالا لم تلده أمه وابتل من نضح دم جبينه

قال : ولأنه أذان للصلاة فلم يجز تقديمه قبل وقتها كسائر الصلوات قال : ولأن كل وقت لا يجوز أن يصلى فيه الصبح لم يجز أن يؤذن لها فيه قياسا على ما قبل نصف الليل . ودليلنا ما رواه الشافعي عن سفيان ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم

فإن قيل : فإنما كان بلال ينادي للسحور ولا يؤذن للصلاة فيه جوابان :

أحدهما : أن لفظ الأذان مختص بالصلاة غير مستعمل في جميعها

والثاني : أنه لو كان سحورا لم يشكل عليهم ولا احتاجوا إلى تعريف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يمنعنكم أذان بلال من سحوركم فإنما يؤذنكم ليرجع قائمكم وينبه نائمكم

[ ص: 27 ] وهذا نص في موضع الخلاف ومنع لما تقدم من السؤال

وروى عبد الله بن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحارث الصدائي قال : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسافرت معه ، فانقطع الناس عنه ذات ليلة ولم يبق معه غيري ، فلما كان أول أذان وقت الصبح ، أمرني أن أوذن للصبح ، فأذنت وجعلت أقول : أقيم ؟ وهو يقول : لا وينظر إلى ناحية المشرق والفجر ، فلما برز الفجر نزل عن راحلته وتوضأ ، فتلاحق الناس به ، وجاء بلال ليقيم ، فقال : يا بلال ، إن أخا صدا أذن ، وإنما يقيم من أذن

وهذا نص . وروي عن سعد القرظ قال : أذنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بقباء ، وفي زمن عمر بالمدينة ، فكان في أذاننا للصبح لوقت واحد في الشتاء ، لسبع ونصف يبقى ، وفي الصيف لسبع يبقى ، ومعلوم أنه أراد لبقاء سبع ونصف من الليل ، لا من النهار ، فدل على تقديم الأذان على الفجر

فإن قيل : إنما أراد لبقاء سبع ونصف إلى طلوع الشمس ، وبعد ذلك يكون بعد طلوع الفجر . فقيل : هذا بعيد ، لأن ما بعد الفجر ليس من الليل فيضاف إليه ، ثم لو كان كما قالوا لثبت استدلالنا به أيضا ، لأن ما بين طلوع الفجر والشمس يكون مثل سبع ذلك اليوم في طوله وقصره ، وهو كان يتقدم لسبع ونصف ، فدل على أنه تقدم على الفجر ، ولأن الفجر يتعلق به عبادتان : الصوم ، وصلاة الصبح ، فلما جاز في الصوم تقديم بعض أسبابه على الفجر ، وهو النية للحاجة الداعية إلى تقديمها ، جاز في صلاة الصبح تقديم بعض أسبابها ، وهو الأذان للحاجة الداعية إليه ، ليتأهب الناس لها فيدركون فضيلة تعجيلها . فكذلك هو الاستدلال قياسا أنها عبادة يدخل وقتها بطلوع الفجر ، فجاز تقديم بعض أسبابها عليه كالصوم ، ولأنها صلاة جهر في نهار فجاز تقديم أذانها قبل جواز فعلها ، كالجمعة يؤذن لها قبل خطبتها ، ولأن الأذان إن جعل تنبيها على الوقت كما أن الإقامة جعلت تنبيها على الفعل ، فلما جاز إيقاع الإقامة قبل الفعل جاز ارتفاع الأذان قبل الوقت

فأما الجواب عن قوله : " لا تؤذن حتى يستنير لك الفجر هكذا " . فهو أن المراد به الإقامة ، لأنه قد سمي أذانا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : بين كل أذانين صلاة إلا المغرب يعني : بين كل أذان وإقامة

[ ص: 28 ] فأما الجواب عن حديث ابن عمر ، وأنس أن بلالا أذن قبل الفجر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي على نفسه : ألا إن العبد قد نام . فمن وجوه :

أحدها : أنه يقدم به على الوقت المعتاد

والثاني : أنه يقدم الإقامة ، لأنها تسمى أذانا

والثالث : أنه أخر الأذان حتى صار مع طلوع الفجر بعد الوقت المعتاد ، ألا ترى إلى قوله : " ألا إن العبد قد نام " ، والنوم يقتضي التأخير لا التقديم

وأما قياسهم على سائر الصلوات ، فالمعنى فيها تأهب الناس لها عند دخول وقتها لاستيفاء الظهر والصبح ، يدخل وقتهما ولم يتأهب الناس لها : لتنومهم ، فافترقت الصبح مع غيرها من الصلوات

وأما قياسهم على ما قبل نصف الليل فالمعنى فيه : أنه وقت العشاء الآخرة ، فلم يجز تقديم الأذان إليه ، فإن قيل : فالشافعي حين جوز تقديم الأذان لها قبل الفجر قال : وليس ذلك بقياس ، وأنتم قد جوزتم ذلك قياسا ففيه جوابان :

أحدهما : أنه لم يكن الأصل في تقديم الأذان القياس ، ولكن السنة ، ثم كان القياس تبعا ومؤكدا ، لأن ما ورد فيه نص لا يقال إنه حكم مأخوذ من القياس ، وإن كان القياس يقتضيه

والثاني : أنه أراد وليس ذاك بقياس على سائر الصلوات ، وإن كان قياسا على غيرها لمنع ذاك من تقديم الأذان لغير الصبح

التالي السابق


الخدمات العلمية