الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وإن كان يضر بها مثل عروق تبقى فيها فليس ذلك ، فإن فعل فهو متعد ورب الأرض بالخيار إن شاء أخذ الكراء ، وما نقصت الأرض عما ينقصها زرع القمح ، أو يأخذ منه كراء مثلها ( قال المزني ) - رحمه الله - تشبه أن يكون الأول أولى : لأنه أخذ ما اكترى وزاد على المكري ضررا كرجل اكترى منزلا يدخل فيه ما يحمل سقفه ، فحمل فيه أكثر ، فأضر ذلك بالمنزل ، فقد استوفى سكناه وعليه قيمة ضرره ، وكذلك لو اكترى منزلا سفلا فجعل فيه القصارين أو الحدادين ، فتقلع البناء ، فقد استوفى ما اكتراه وعليه بالتعدي ما نقص بالمنزل " .

قال الماوردي : إذا استأجر أرضا لزرع الحنطة لم يكن له أن يغرسها ، ولا أن يزرعها ما هو أكثر ضررا من الحنطة كالدخن والكتان والذرة ، فإن فعل فقد تعدى ، ويؤخذ بقلع زرعه : لأنه غير مأذون فيه فصار كالغاصب ، وهل يصير بذلك ضامنا لرقبة الأرض حتى يضمن قيمتها إن غصبت ، أو تلفت بسيل ؟ على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي حامد الإسفراييني : أنه يضمنها : لأنه قد صار - بالعدول عما استحقه - غاصبا ، والغاصب ضامن .

[ ص: 465 ] والوجه الثاني : وهو الأصح - أنه لا يضمن رقبة الأرض : لأن تعديه في المنفعة لا في الرقبة .

فإن تمادى الأمر بمستأجرها حتى حصد زرعه ثم طولب بالأجرة ، فالذي نص عليه الشافعي أن رب الأرض بالخيار بين أن يأخذ المسمى ، وما نقصت الأرض ، وبين أن يأخذ أجرة المثل .

فاختلف أصحابنا فكان المزني ، وأبو إسحاق المروزي ، وأبو علي بن أبي هريرة : يخرجون تخيير الشافعي - رضي الله عنه - على قولين :

أحدهما : أن رب الأرض يرجع بأجرة المثل دون المسمى : لأن تعدي الزارع بعدوله عن الحنطة إلى ما هو أضر منها كتعديه بعدوله عن الأرض إلى غيرها ، فلما كان بعدوله إلى غير الأرض ملتزما لأجرة المثل دون المسمى ، فكذلك بعدوله إلى غير الحنطة .

والقول الثاني : أنه يرجع بالمسمى من الأجرة وينقص الضرر الزائد على الحنطة : لأنه قد استوفى ما استحقه وزاد ، فصار كمن استأجر بعيرا من مكة إلى المدينة فتجاوز به إلى البصرة ، فعليه المسمى وأجرة المثل في الزيادة .

وقال الربيع ، وأبو العباس بن سريج ، وأبو حامد المروزي : إن المسألة على قول واحد ، وليس التخيير منه اختلافا للقول فيها فيكون رب الأرض بالخيار بين أن يرجع بالمسمى ، وما نقصت الأرض بالزيادة كالمتجاوز بركوب الدابة ، وبين أن يفسخ الإجارة ويرجع بأجرة المثل : لأنه عيب قد دخل عليه فجاز أن يكون به مخيرا بين المقام أو الفسخ .

فأما المزني فإنه اختار أن يرجع بالمسمى ، وما نقصت الأرض ، واستدل بمسألتين :

إحداهما : أن يستأجر بيتا لحمولة مسماة فيعدل إلى غيرها ، فهذا ينظر ، فإن استأجر سفل بيت ليحرز فيه مائة رطل حديد فأحرز فيه مائة وخمسين رطلا ، أو عدل عن الحديد إلى القطن فلا ضمان عليه : لأن سفل البيت لا تؤثر فيه هذه الزيادة ، ولا العدول عن الجنس ، وإن كان علو بيت تكون الحمولة على سقفه ، فإن كانت الإجارة لمائة رطل من حديد فوضع عليه مائة وخمسين رطلا ، فهذه زيادة متميزة فيلزمه المسمى من الأجرة وأجرة مثل الزيادة ، وإن كان قد استأجره لمائة رطل قطنا فوضع فيه مائة رطل من حديد فهذا ضرر لا يتميز : لأن القطن يتفرق على السقف ، والحديد يجتمع في موضع منه ، فكان أضر ، فيكون رجوع المؤجر على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا في القولين .

والمسألة الثانية من دليل المزني على اختياره : أن يستأجر دارا للسكنى فيسكن فيها حدادين ، أو قصارين ، أو ينصب فيها رحى ، فهذه زيادة ضرر لا يتميز ، فيكون رجوع المؤجر على ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في القولين فلم يكن للمزني فيما استشهد به دليل من مذهب ، ولا حجاج .

[ ص: 466 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية