الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " والموات الذي للسلطان أن يقطعه من يعمره خاصة وأن يحمي منه ما يرى أن يحميه عاما لمنافع المسلمين ، والذي عرفنا نصا ودلالة [ ص: 481 ] فيما حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه حمى النقيع وهو بلد ليس بالواسع الذي إذا حمي ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله وأضر بهم وكانوا يجدون فيما سواه من البلاد سعة لأنفسهم ومواشيهم ، وأنه قليل من كثير مجاوز للقدر ، وفيه صلاح لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدة لسبيل الله تبارك وتعالى ، وما فضل من سهمان أهل الصدقات ، وما فضل من النعم التي تؤخذ من الجزية ترعى جميعها فيه ، فأما الخيل فقوة لجميع المسلمين ومسلك سبيلها أنها لأهل الفيء ، والمجاهدين ، وأما النعم التي تفضل عن سهمان أهل الصدقات فيعاد بها على أهلها ، وأما نعم الجزية فقوة لأهل الفيء من المسلمين فلا يبقى مسلم إلا دخل عليه من هذا خصلة صلاح في دينه أو نفسه ، أو من يلزمه أمره من قريب أو عامة من مستحقي المسلمين ، فكان ما حمى عن خاصتهم أعظم منفعة لعامتهم من أهل دينهم وقوة على من خالف دين الله عز وجل من عدوهم ، قد حمى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على هذا المعنى بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولى عليه مولى له يقال له : هني ، وقال له : يا هني ، ضم جناحك للناس واتق دعوة المظلوم ، فإن دعوة المظلوم مجابة ، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة ، وإياي ونعم ابن عفان ونعم ابن عوف فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع ، وإن رب الغنيمة يأتيني بعياله فيقول : يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا ؟ لا أبا لك ، والكلأ أهون من الدرهم والدينار ( قال الشافعي ) - رحمه الله - : وليس للإمام أن يحمي من الأرض إلا أقلها الذي لا يتبين ضرره على من حماه عليه وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا حمى إلا لله ورسوله ( قال ) وكان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلدا مخصبا أوفى بكلب على جبل إن كان به ، أو نشز إن لم يكن ثم استعوى كلبا وأوقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء ، فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ويرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفي ماشيته ، وما أراد معها فنرى أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا حمى إلا لله ورسوله لا حمى على هذا المعنى الخاص وأن قوله لله فلله كل محمي وغيره ، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إنما يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما يحمي له غيره من خاصة نفسه ، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يملك مالا إلا ما لا غنى به وبعياله عنه ومصلحتهم حتى صير ما ملكه الله من خمس الخمس وماله إذا حبس قوت سنته مردودا في مصلحتهم في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله ؛ ولأن نفسه وماله كان مفرغا لطاعة الله تعالى " .

قال الماوردي : اعلم أن هذا الباب يشتمل على ثلاثة أحكام يختص بالموات ، وهي الإحياء ، والإقطاع ، والحمى ، فأما الإحياء : فقد ذكرنا جوازه ومن يجوز له وسنذكر صفته ، وأما الإقطاع : فإنه لا يصح إلا في موات لم يستقر عليه ملك ، وعلى هذا كانت قطائع [ ص: 482 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أقطع الزبير ركض فرسه من موات البقيع فأجراه ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فقال : أعطوه منتهى سوطه وأقطع راشد بن عبد ربه السلمي غلوة بسهم ، وغلوة حجر برهاط ، وأقطع العداء بن خالد بن هوذة ما يقال له : سواح الوخيخ ، وأقطع العباس بن مرداس منزله بالرشة إلى غير ذلك ، فعلى هذا كانت قطائع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما كان من شأن تميم الداري وأبي ثعلبة الخشني ، فإن تميما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطعه عيون البلد الذي كان منه بالشام قبل فتحه ، وأبو ثعلبة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه الذي قال فقال : ألا تسمعون ما يقول ؟ فقال : والذي بعثك بالحق ليفتحن عليك ، فكتبت له كتابا فاحتمل ذلك عن فعله أن يكون أقطعهما ذلك إقطاع تقيد لا إقطاع تمليك ، ويجوز أن يكونا مخصوصين بذلك لتعلقه بتصديق إخبار وتحقيق إعجاز ، وأما الأئمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لم يقطعا إلا مواتا لم يجر عليه ملك واصطفى عمر من أرض السواد أموال كسرى وأهل بيته ، وما هرب عنه أربابه أو هلكوا ، فكان مبلغ تسعة ألف ألف ، فكان يصرفها في مصالح المسلمين ، ولم يقطع شيئا ثم إن عثمان - رضي الله عنه - أقطعها : لأنه رأى اقتطاعها أوفر لغلتها من تعطيلها ، وشرط على من أقطعها أن يأخذ منه حق الفيء فكان ذلك منه إقطاع إجارة لا إقطاع تمليك ، وقد توفرت عليه حتى بلغت خمسين ألف ألف فكانت منها إقطاعا به وصلاته ، ثم تناقلها الخلفاء بعده ، فلما كان عام الجماجم سنة اثنين وثمانين وفتنةابن الأشعث لحرق الديوان وأخذ كل قوم ما يليهم ، وإذا كان إقطاع الإمام إنما يختص بالموات دون العامر ، فالذي يؤثره إقطاع الإمام أن يكون المقطع أولى الناس بإحيائه من لم يسبق إلى إحيائه لما كان إذنه وفضل اجتهاده ، فلو بادر بإحيائها غير المقتطع فهي ملك للمحيي دون المقطع ، وقال أبو حنيفة : إن أحياها قبل مضي ثلاث سنين من وقت الإقطاع فهي للمقطع ، وإن أحياها بعد ثلاث سنين فهي للمحيي ، وقال مالك بن أنس : إن أحياها عالما بالإقطاع فهي للمقطع ، وإن أحياها غير عالم بالإقطاع خير المقطع بين أن يعطي المحيي نفقة عمارته وتكون الأرض له ، وبين أن يترك عليه الأرض ويأخذ قيمتها قبل العمارة ، استدلالا برواية معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع أقواها أرضا فجاء آخرون في زمان عمر - رضي الله عنه - فأحيوها فقال لهم عمر - رضي الله عنه - حين فرغوا إليه : تركتموهم يعملون ويأكلون ثم جئتم تغيرون عليهم : لولا أنها قطيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطيتكم شيئا ، ثم قومها عامرة وقومها غير عامرة ثم قال لأهل الأصل : إن شئتم فردوا عليهم ما بين ذلك وخذوا أرضكم ، وإن شئتم ردوا عليكم ثمن أرضكم ثم هي لهم ، ودليلنا على أنها ملك المحيي بكل حال دون المقطع قوله - صلى الله عليه وسلم - : من أحيا أرضا مواتا فهي له ، ولأن الإقطاع لا يوجب التمليك ، والإحياء يوجب التمليك ، فإذا اجتمعا كان ما أوجب التمليك أقوى حكما مما لا يوجبه ، فأما حديث عمر - رضي الله عنه - فقد قال في قضيته : لولا أنها قطيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطيتكم شيئا فدل على أن من رأيه أنها للمحيي ، وإنما عدل عن هذا الرأي لما توجه إليها من إقطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكره أن يبطله ، فاستنزل الخصمين إلى ما قضى مرضاة لا جبرا ، فأما إن كان المقطع قد حجرها وجمع ترابها حتى تميزت عن غيرها فجاء [ ص: 483 ] غيره فعمرها وحرثها نظر ، فإن كان المقطع مقيما على عمارتها حتى تغلب عليها الثاني فعمرها فهي للأول ويكون الثاني متطوعا بعمارته ، وإن كان المقطع قد ترك عمارتها فعمرها الثاني فهي للثاني دون الأول ، وهكذا لو كان الأول قد بدأ بالعمل من غير إقطاع ، فهذا حكم الإقطاع .

التالي السابق


الخدمات العلمية