الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الضرب الثالث : وهو ما يختص بالارتفاق فيه بأقنية الشوارع والطرقات أن يجلس فيها السوقة بأمتعتهم ليبيعوا ويشتروا ، فهذا مباح لما قدمنا من الدليل عليه ، وللإمام أن ينظر فيه ، واختلف أصحابنا في حكم نظر الإمام فيه على وجهين :

أحدهما : أن نظره فيه مقصور على كفهم عن التعدي ومنعهم من الإضرار ، وليس له أن يمنع جالسا ولا أن يقدم أحدا .

والوجه الثاني : أن نظره نظر مجتهد فيما يراه صلاحا من إجلاس من يجلسه ، ومنع من يمنعه ، وتقديم من يقدره ، كما يجتهد في أموال بيت المال ، فإذا أخذ الباعة مقاعدهم في أقنية الأسواق والطرقات ، روعي في جلوسهم ألا يضروا بمار ، ولا يضيقوا على سائل ، وليس للإمام أن يأخذ منهم أجرة مقاعدهم ، فلو جلس رجل بمتاعه في مكان فجاء غيره ليقيمه منه ويجلس مكانه لم يجز ما كان الأول جالسا بمتاعه ، فلو قام ومتاعه في المكان فهو على حقه فيه ومنع غيره منه ، فإذا قاموا من مقاعدهم بأمتعتهم عند دخول الليل ثم غدوا إليها من الغد كان كل من سبق إلى مكان أحق به ، ولا يستحق العود إلى المكان الذي كان فيه وعرف به ، وقال مالك : إذا عرف أحدهم بمكانه طال جلوسه فيه فهو أحق به من غيره لما فيه من المصلحة بقطع التنازع ووقوع الاختلاف وهذا عنه صحيح ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - منى مناخ من سبق ولأنه لو جعل أحق به لصار في حكم ملكه ولحماه عن غيره فلو تنازع رجلان في مقعد ولم يمكنهما الجلوس بناء على نظر الإمام فيه .

أحدهما : يقرع بينهما فأيهما قرع كان به أحق ، وهذا على الوجه الذي يجعل نظر الإمام مقصورا على منع الضرر وقطع التنازع .

والوجه الثاني : أن الإمام يجتهد رأيه في إجلاس من يرى منهما ، وهذا على الوجه الذي يجعل نظر الإمام نظر اجتهاد ومصلحة ، فلو أقطع الإمام رجلا موضعا من مقاعد الأسواق ليبيع فيه متاعه ففيه وجهان :

أحدهما : أنه أحق بالمكان ما لم يسبق إليه ، فإن سبق إليه كان السابق أحق به ، وهذا إذا قيل : إن نظره مقصور على منع الضرر .

والوجه الثاني : أنه أحق من السابق بذلك المكان ، وهذا إذا قيل : إن نظره اجتهاد في الأصلح ، فلو أن رجلا ألف مقعدا في فناء طريق حتى تقادم عهده فيه وعرف به ففيه لأصحابنا وجهان : [ ص: 496 ] أحدهما : يقر في مكانه ما لم يسبقه إليه غيره .

والوجه الثاني : أنه يقام عنه ويمنع منه لئلا يصير زريعة إلى تملكه وادعائه ، فلو أراد رجل أن يبني في مقعد من فناء السوق بناء منع : لأن إحداث الأبنية يستحق في الأملاك ، وأما إذا حلق الفقهاء في المساجد ، والجوامع حلقا منع الناس من استطراقها والاجتياز فيها ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا حمى إلا في ثلاث : ثلة البئر ، وطول الفرس ، وحلقة القوم فلو عرف فقيه بالجلوس مع أصحابه في موضع من الجامع لم يكن له منع من سبق إليه وكان السابق أحق به ، وقال مالك : قد صار من عرف بذلك الموضع من الفقهاء والقراء أحق به ، وله منع من سابق إليه وهذا غير صحيح لقوله تعالى : سواء العاكف فيه والبادي ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية