الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من منع فضل ماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وليس له منع الماشية من فضل مائه ، وله أن يمنع ما يسقى به الزرع أو الشجر إلا بإذنه " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . الآبار على ثلاثة أضرب : ضرب يحفره في ملكه ، وضرب يحفره في الموات لتملكه ، وضرب يحفر في الموات لا للتملك .

فأما الضرب الأول : وهو إذا حفر بئرا في ملكه ، فإنما نقل ملكه من ملكه : لأنه ملك المحل قبل الحفر .

وأما الضرب الثاني : وهو إذا حفر بئرا في الموات ليتملكها فإنه يملكها بالإحياء ، والإحياء أن يبلغ إلى مائها : لأن ذلك نيلها ، وإذا بلغ نيل ما يحييه ملكه ، وقيل : إن يبلغ الماء يكن ذلك تحجرا ، وهذا كما قلنا في المعدن الباطن : إن تحجيره ما لم يبلغ النيل ، وإذا بلغ النيل كان ذلك إحياء ويملكه ، ويفارق المعدن على أحد القولين : لأن المعدن لا ينتهي عمارته ، والبئر تنتهي عمارتها ، فإذا بلغ الماء تكررت منفعتها على صنفيها ، إذا ثبت هذا فهل يملك الماء الذي يحصل في هذين الضربين أم لا ؟ نص الشافعي على أنه يملك ، ومن أصحابنا من قال : لا يملك : لأن الماء في البئر لو كان مملوكا يستباح بالإجارة : لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة ، ولأنه لو كان مملوكا لما جاز بيع دار في بئرها ماء بدار في بئرها ماء : لأن الربا يجري في الماء لكونه مطعوما ، ولما جاز ذلك دل على أنه ليس بمملوك ، والدليل على أنه مملوك أنه نماء ملكه فهو كثمرة الشجرة ، ولأن هذا الماء معدن ظهر في أرضه ، فهو كمعادن الذهب والفضة وغيرها إذا ظهرت في أرضه .

فأما الجواب عن قولهم : لو كان مملوكا لم يستبح بالإجارة ، فهو أن العين قد تستباح بالإجارة إذا دعت الحاجة إليه ، ألا ترى أنه يجوز أن تملك بعقد الإجارة على الإرضاع عين اللبن : لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، وجواب آخر وهو أنه إنما جاز أن يستبيحه المستأجر : لأنه لا ضرر على المكري في ذلك : لأنه يستخلف في الحال ، وما لا ضرر عليه فيه فليس له منع [ ص: 507 ] الغير منه ، ألا ترى أنه ليس له أن يمنع أن يستظل بحائطه فكذلك هاهنا .

وأما الجواب عن دليلهم الثاني فهو أن الماء يجري فيه الربا على أحد الوجهين فهو مملوك ، ولا يجري فيه الربا على هذا الوجه ، فكذلك صح البيع إذا تقرر هذان الوجهان ، فإن قلنا :

إنه مملوك فليس لغيره أن يأخذ شيئا منه ، وإن أخذه كان عليه رده على صاحبه ، فإن قلنا : ليس بمملوك ، فليس لغيره أيضا أن يأخذ منه شيئا : لأنه يحتاج أن يتخطى في ملك غيره بغير إذنه ، فإن تخطى بغير إذنه واستقى من ذلك الماء ملكه ، وليس عليه رده ، كما إذا توغل في أرضه صيد فليس لغيره أن يأخذه : لأنه يحتاج أن يتخطى ملك غيره بغير إذنه ، وذلك لا يجوز ، فإن خالف وتخطى فأخذه ملكه ، وأما إذا أراد أن يبيع منه شيئا ، فإن خالف قلنا : إنه غير مملوك لم يجز بيع شيء منه حتى يستقيه ويحوزه فيملكه بالحيازة ، وإن قلنا : إنه مملوك جاز أن يبيع منه وهو في البئر إذا شاهد المشتري كيلا أو وزنا ، ولا يجوز أن يبيع جميع ما في البئر : لأنه لا يمكن تسليمه إذا كان ببيع ويريد كلما استقى منه شيء ، فلا يمكن تمييز المبيع من غيره .

وأما الضرب الثالث من الآبار : وهو إذا نزل قوم موضعا من الموات فحفروا فيه بئرا ليشربوا من مائها ويسقوا منه مواشيهم مدة مقامهم ، ولم يقصدوا التملك بالإحياء ، فإنهم لا يملكونها : لأن المحيي إنما يملك بالإحياء مدة ما قصد به بملكه ، فإنه يكون أحق به مدة مقامه ، فإذا رحل فكل من يسبق إليه كان أحق به ، وكل موضع قلنا إنه يملك البئر فإنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه ، فإذا فضل بعد ذلك شيء وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه وشرب ماشيته من السائلة وغيرهم ، وليس له منع الماء الفاضل عن حاجته حتى لا يتمكن غيره من رعي الكلأ ، والذي يقرب ذلك الماء ، وإنما يجب عليه ذلك لشرب المحتاج إليه وشرب ماشيته ، فأما لسقي زرعه فلا يجب عليه ذلك ولكن يستحب . وقال أبو عبيد بن حربويه : يستحب ذلك لشرب ماشيته وسقي زرعه ، ولا يجب عليه ، ومن الناس من قال : يجب عليه بذله بعوض لشرب الماشية وسقي الزرع ، فأما بلا عوض فلا ، واحتج أبو عبيد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه وقال : ولأنه لو كان كلأ مملوكا وبجنبه بئر ، ولا يمكن سقي المواشي من تلك البئر إلا بالرعي في ذلك الكلأ لم يلزمه بذل الفاضل من كلائه ، فإن كان منعه يؤدي إلى منع الماء المباح ، فكذلك إذا كان الماء له ، وكان الكلأ مباحا لم يلزمه بذل الماء ، وإن كان المنع يؤدي إلى منع الكلأ المباح ، قال : ولأنه لما لم يجب ذلك لسقي زرعه فكذلك لمواشيه .

ودليلنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة وفيه أدلة :

أحدها : أنه توعد على المنع فدل على أن البذل واجب .

والثاني : أنه دل على أن الفاضل هو الذي يجب بذله ، فأما ما تحتاج إليه الماشية ونفسه وزرعه فلا يجب عليه بذله وهو أحق من غيره .

[ ص: 508 ] والثالث : أنه دل على أنه يجب عليه البذل بلا عوض .

والرابع : أنه دل على أنه إنما يجب عليه ذلك للماشية دون غيرها وروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الناس شركاء في ثلاث : الماء ، والنار ، والكلأ وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع فضل الماء .

فأما الجواب عن الخبر الذي احتج به فهو أن يقول : هو عام وخبرنا خاص فقضى عليه .

وأما ما ذكره من الكلأ فهو أن الفرق بين الماء وبينه من وجهين :

أحدهما : أن الماء إذا أخذ استخلف في الحال ونبع مثله ، وليس كذلك الحشيش فإنه إذا أخذ لا يستخلف بدله في الحال .

والثاني : أن الحشيش يتمول في العادة ، والماء لا يتمول في العادة .

وأما الجواب عن دليله الأخير فهو أن الزرع لا حرمة له ، وليس كذلك الحيوان فإن له حرمة ، ألا ترى أنه لو عطش زرعه فلم يسقه لم يجبر على ذلك ، ولو عطش حيوان أجبر على سقيه ، فبان الفرق بينهما إذا ثبت أنه يلزمه البذل لما ذكرنا ، فإنه لا يلزمه أن يبذل آلته التي هي البكرة ، والدلو ، والحبل : لأنها تبلى بالاستعمال ، ولا تستخلف ، ويفارق الماء : لأنه يستخلف في الحال بدله .

التالي السابق


الخدمات العلمية