الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة يوم يخرجها إليه ، فإن لم يسبلها على من بعدهم كانت محرمة أبدا ، فإذا انقرض المتصدق بها عليه كانت محرمة أبدا ورددناها على أقرب الناس بالذي تصدق بها يوم ترجع " .

قال الماوردي : اعلم أن الوقف ملحق بالهبات في أصله ، وبالوصايا في فرعه ، وليس كالهبات المحضة : لأنه قد يدخل فيها من ليس بموجود ، ولا كالوصايا : لأنه لا بد فيها من أصل موجود ، ثم اعلم أن صحة الوقف من يجوز وقفه ، وما يجوز وقفه معتبر بخمسة شروط : أحدها : أن يكون معروف السبيل ، ليعلم مصرفه وجهة استحقاقه ، فإن قال : وقفته على [ ص: 520 ] ما شاء زيد ، وهكذا لو قال : وقفته على ما شاء زيد ، كان باطلا ، وهكذا لو قال : وقفته فيما شاء الله ، كان باطلا : لأنه لا يعلم مشيئة الله تعالى فيه ، فلو قال : وقفته على من شئت ، أو فيما شئت ، فإن كان قد تعين له من شاء ، أو ما شاء عند وقفه جاز ، وأخذ بيانه ، وإن لم يتعين له لم يجز : لأنهم إذا تعينوا له عند مشيئته فالسبيل معروفة عند واقفه يؤخذ بيانها ، وإذا لم يتعينوا فهي مجهولة كورود ذلك إلى مشيئة غيره ، فهي مجهولة عنده ، وإن كانت معينة عند غيره ، فلو قال : وقفت هذه الدار ، ولم يزد على هذا ، ففي الوقف وجهان :

أحدهما : باطل ، وهو الأقيس للجهل باستحقاق المصرف .

والوجه الثاني : جائز ، وفي مصرفه ثلاثة أوجه حكاهم ابن سريج .

أحدهما : وهو الأصح أنه يصرف إلى الفقراء ، والمساكين : لأن مقصود الوقف القربى ، ومقصود القربى في الفقراء والمساكين ، فصار كما لو وصى بإخراج ثلث ماله ، ولم يذكر في أي الجهات صرف في الفقراء ، والمساكين ، ويكون أقرب الناس نسبا ودارا من ذوي الحاجة أحق بها .

والثاني : أنه يصرف في وجوه الخير والبر لعموم النفع بها .

والثالث : وهو مذهب له أن الأصل وقف ، والمنفعة له ولورثته وورثة ورثته ما بقوا ، فإذا انقرضوا كانت في مصالح المسلمين فكأنه وقف الأصل واستبقى المنفعة لنفسه ولورثته . وإن قيل : فلو قال : وقفتها على من يولد لي وليس له ولد يجوز .

قيل : لا ، والفرق بينهما أنه مع الإطلاق قد يحمل بالعرف على جهة موجودة ومع تعيين الحمل قد حمله على جهة غير موجودة .

فلو قال : وقفتها على جميع المسلمين ، أو جميع الخلق ، أو على كل شيء فهو وقف باطل لعلتين :

أحدهما : أن الوقف ما كان سبيلا مخصوص الجهات لتعرف ، وليس كذلك هذا .

والعلة الثانية : أنه لا يملك استيفاء هذا الشرط ، ولو وقفها على الفقراء والمساكين جاز وإن لم يمكن وقفها إلى جميعهم ، لأمرين :

أحدهما : أن الجهة مخصوصة .

والثاني : أن عرف الشرع فيهم لا يوجب استيعاب جميعهم كالزكاوات ، ولو وقفها على قبيلة لا يمكن استيفاء جميعهم كوقفه إياها على ربيعة ، أو مضر ، أو على بني تميم ففيه وجهان :

أحدهما : أن الوقف باطل تعليلا بأن استيفاء جميعهم غير ممكن ، وليس في الشرع لهم عرف .

[ ص: 521 ] والثاني : أن الوقف جائز تعليلا بأن الجهة مخصوصة معروفة ويدفع إلى من أمكن منهم كالفقراء والمساكين ، وهذا حكم الشرط الأول ، وما يتفرع عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية