الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : أن يقول : وقفت بعده الدار على زيد ، ولم يذكر آخره لم يصح : لأن زيدا يموت فيصير الوقف منقطعا ، وكذلك لو قال : على زيد وأولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا : لأنه وقف لا يعلم تأبيده لجواز انقراضهم فصار وقفا منقطعا ، وهكذا لو وقف على مسجد أو رباط أو نفر : لأن المسجد والرباط قد يخربان ويبطلان ، والثغر قد يسلم أهله فصار منقطعا حتى يقول : فإن بطل ، فعلى الفقراء والمساكين .

وأما إن وقفه على قراء القرآن لم يكن منقطعا : لأنهم باقون ما بقي الإسلام ، وقد تكفل الله تعالى بإظهاره على الدين كله ، وهكذا لو وقفه على المجاهدين في سبيل الله كان وقفا باقيا إذا لم يكن على ثغر بعينه ، وإذا لم يجز بما وصفنا أن يكون الوقف مقدرا ولا منقطعا ، ففيه قولان إن فعل ذلك .

أحدهما : باطل ؛ لأن حكم الوقف أن يكون مؤبدا ، والمنقطع غير مؤبد فلم يصر وقفا .

والقول الثاني : أن الوقف جائز : لأنه إذا كان الأصل موجودا لم يحتج إلى ذكر من ينتقل إليه كالوصايا والهبات .

فإذا قيل ببطلان الوقف كان ملك الواقف ، ولا يلزم في الأصل ولا في غيره ، وله التصرف فيه كسائر أملاكه .

فإذا قيل بجواز الوقف ، كان على الأصل الموجود ما كان باقيا لا حق لواقفه فيه ، فإذا هلك الأصل وهو أن يموت الوقف فينقطع سبله ، فلا يخلو حال الواقف من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يشترط تحريمها وتأبيدها .

[ ص: 522 ] والثاني : أن يشترط رجوعها إليه .

والثالث : أن يطلق ، وإن اشترط رجوعها إليه ففيه وجهان :

أحدهما : وهو قول أبي العباس بن سريج وهو مذهب مالك أنهما ترجع إليه لما ذكرنا لهما من الآثار لموجب الشرط .

والثاني : وهو الأصح : لأنها لا ترجع تغليبا للحكم في الوقف على الشرط ، وإن اشترط تأبيدها أو أطلق لم يرجع إليه لا يختلف : لأن تعيين الأصل قد أخرجه عن ملكه ، وفي مصرفه ثلاثة أوجه :

أحدها : يصرف في وجوه الخير والبر : لأنها أعم .

والثاني : في الفقراء والمساكين : لأنهم مقصود الصدقات .

والثالث : وهو مذهب الشافعي نص عليه في هذا الموضع وغيره أنه يرد على أقارب الواقف ، لكن أطلق المزني والربيع ذكر الأقارب ، ولم يفرق بين الفقراء والأغنياء ، وروى حرملة أنه يرد على الفقراء من أقاربه ، وكان بعض أصحابنا يخرج اختلاف الرواية على اختلاف قولين :

أحدهما : يرد على الفقراء والأغنياء من أقاربه ، وهو ظاهر ما رواه المزني والربيع .

والقول الثاني : يرجع على الفقراء منهم دون الأغنياء ، وهو نص ما رواه حرملة ، وقال جمهور أصحابنا : ليست الرواية مختلفة ، وإنما اختلاف المزني والربيع محمول على تقييد حرملة ، ويرد على الفقراء من أقاربه دون الأغنياء : لأنه مصرف الوقف المنقطع في ذوي الحاجة وإنما خص الأقارب صلة للرحم كالزكاة ، وإذا تقرر ما وصفنا فلا يخلو حال الوقف من أربعة أقسام :

أحدها : أن يكون على أصل موجود وفرع موجود .

والثاني : أن يكون على أصل معدوم وفرع معدوم .

والثالث : أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم .

والرابع : أن يكون على أصل معدوم وفرع موجود .

فأما القسم الأول : وهو أن يكون على أصل موجود وفرع موجود فهو أن يقول : وقفت الدار على زيد ، فإذا مات فعلى الفقراء والمساكين ، فهذا جائز : لأنه قد جعل زيدا أصلا وهو موجود ، والفقراء والمساكين فرعا وهم موجودون ، وهكذا إذا قال : وقفتها على زيد وأولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا ، ثم على الفقراء والمساكين صح ، وإن لم يكن أولاد زيد موجودين : لأنهم تبع لموجود ويتعقبهم فرع موجود ، ومن هذا الوجه صار الوقف ملحقا بالوصايا في فرعه .

وأما القسم الثاني : وهو أن يكون أصل معدوم وفرع معدوم ، فهو أن يقول : وقفتها [ ص: 523 ] على من يولد لي ثم على أولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا ، فهذا وقف باطل : لأن من يولد له معدوم ، ومن هذا الوجه صار ملحقا بالهبات ثم يكون ما وقفه على ملكه قولا واحدا بخلاف ما وقفه وقفا مرسلا لما ذكرنا من الفرق بين الأمرين .

وأما القسم الثالث : وهو أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم فهو ما ذكرنا من المقدر والمنقطع ، وفيه ما وصفنا من القولين .

وأما القسم الرابع : هو أن يكون على أصل معدوم وفرع موجود ، فهو أن يقول : وقفتها على من يولد لي ، ثم على أولادهم ، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين ، فقد اختلف أصحابنا فكان أبو علي بن أبي هريرة يخرجها على قولين كما لو كان على أصل موجود وفرع معدوم .

أحدهما : باطل لعدم أصله .

والثاني : جائز لوجود فرعه ، وكان أبو إسحاق المروزي يجعل الوقف باطلا قولا واحدا ، وهذا هو الصحيح ، والفرق بين هذا وبين أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم أن ما عدم أصله فليس له مصرف في الحال ، وإنما ينتظر له مصرف في ثاني حال ، فبطل ، وما وجد فله مصرف في الحال ، وأما ما يخاف عدم مصرفه في ثاني حال فلو قال : وقفتها على الفقراء والمساكين إلا أن يولد لي ولد ، فيكون الوقف له ولولده وأولادهم ما تناسلوا ، وإذا انقرضوا فالفقراء والمساكين ، وهذا وقف جائز : لأن الفقراء فيه أصل وفرع ، وإنما جعل ما بين الأصل والفرع معدوما ، فلم يمنع من صحة الوقف ، كما لو وقفه على ولد له موجود ثم على أولاده الذين لم يولدوا بعد ثم على الفقراء والمساكين كان الوقف جائزا ، فهذا حكم الشرط الثاني وما تفرع عليه .

والشرط الثالث : أن يكون على جهة تصح ملكها أو التملك لها : لأن غلة الوقف مملوكة ، ولا تصح إلا فيما يصح أن يكون شيء من ذلك مالكا .

قيل : هذا وقف على كافة المسلمين ، وإنما عين مصرفه في هذه الجهة فصار مملوكا مصروفا في هذه الجهة من مصالحهم .

فعلى هذا لو قال : وقفت داري على دابة زيد لم يجز : لأن الدابة لا تملك ، ولا يصرف ذلك في نفقتها : لأن نفقتها تجب على المالك ، وهكذا لو قال : وقفتها على دار عمرو لم يجز : لأن الدار لا تملك فلو وقفها على عمارة دار زيد ، نظر فإن كانت دار زيد وقفا صح هذا الوقف : لأن الوقف طاعة وحفظ عمارته قربة ، فصار كما لو وقفها على مسجد أو رباط ، أو كانت دار زيد ملكا طلقا ، بطل هذا الوقف عليها : لأن الدار لا تملك وليس استيفاؤها واجبا إذ لزيد بيعها ، وليس في حفظ عمارتها طاعة ، ولو وقفها على عبد زيد ، نظر فإن كان الوقف على نفقة العبد لم يجز : لأن نفقته على سيده وإن كان الوقف ليكون العبد مالكا لغلته ، فعلى قولين من اختلاف قوليه في العبد هل يملك إذا ملك أم لا ؟ ولو وقفها على المكاتبين ، أو على [ ص: 524 ] مكاتب بعينه كان الوقف جائزا : لأن سهام الزكوات أغلظ حكما ، وفيها سهم الرقاب ، ولو وقفها على مدبر كان كالعبد وكذلك أم الولد ، ولكن لو وقفها على عبده أو مدبره أو مكاتبه أو أم ولده قبل موته لم يجز : لأنه كالوقف على نفسه ، فهذا حكم الشرط الثالث .

التالي السابق


الخدمات العلمية