الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولو اتصل حديث طاوس " لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا لوالد فيما يهب لولده " لقلت به ، ولم أرد واهبا غيره وهب .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، والحديث متصل ، وليس لواهب أقبض ما وهب أن يرجع فيه إلا أن يكون والدا فيجوز له الرجوع ، فأما من سواه فلا رجوع له سواء كان أجنبيا أو ذا رحم ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : إن وهب لذي رحم محرم لم يجز أن يرجع في هبته له ، وإن وهب لذي غير رحم جاز الرجوع ، فأما أبو حنيفة فالكلام معه في فصلين :

أحدهما : جواز رجوع الأب في هبته وأبو حنيفة يمنع منه .

والثاني : منع الأجنبي من الرجوع في هبته ، وأبو حنيفة فأما الفصل الأول وهو جواز رجوع الأب في هبته ، فاستدل أبو حنيفة على المنع من رجوعه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه فكان عموم هذا يمنع من رجوعه فيما ملك الابن عنه ، وبرواية ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود فيه وبما روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : من وهب لذي رحم لم يرجع ، ومن وهب لغير ذي رحم رجع ما لم يبت قال : ولأن الهبة لذي الرحم صدقة : لأن المقصود بها ثواب الله تعالى دون [ ص: 546 ] المكافأة ، فلما لم يجز أن يرجع في الصدقة لم يجز أن يرجع في الهبة لذي الرحم ، ولأن في الرجوع في الهبة عقوقا ، وعقوق ذي الرحم حرام ، ولأنه لو وهب بشرط الثواب فأثيب لم يرجع ، وهذا قد أثيب من قبل الله تعالى في هبة الرحم فلم يجز أن يرجع .

ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - لبشير في هبته لنعمان من بين ولده : فارجعه فلولا أن رجوعه جائز لما أمره به ، ولكان الأولى لو فعله أن يمنعه منه ، وروى عمرو بن سعيد ، عن طاوس ، عن ابن عمر ، وابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يجوز لرجل أن يعطي عطية ، أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ، ومثل الذي يعطي العطية ويرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه ، وهذا نص لم يكن متصلا عند الشافعي ، وقد ثبت اتصاله ، وبهذا يخص ما استدل به من عموم الخبر الأول ، ويتمم ما اقتصر عليه من بقية الخبر الثاني ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : أولادكم من كسبكم ، فكلوا من طيب كسبكم ، فميز الولد من غيره وجعله كسبا لوالده ، فكان ما كسبه الولد منه أولى أن يكون من كسبه ، وقد يتحرر من هذا الاعتلال قياس فيقال : لأنه وهب كسبه لكسب غير معتاض عنه ، فجاز له الرجوع فيه كما لو وهب لعبده ، ولأن ما للولد في يد والده لجواز تصرفه فيه إذا كان صغيرا وأخذ النفقة منه إذا كان كبيرا فصارت هبة له ، وإن خرجت عن يده في حكم ما وهبه وهو باق في يده ، فإذا جاز أن يرجع فيما وهبه لغيره إذا لم يقبضه لبقائه في يده جاز أن يرجع فيما وهبه لولده وإن أقبضه : لأنه في حكم الباقي في يده ، وتحرير هذا الاستدلال قياسا أنها هبة يجوز تصرفه فيها فجاز له الرجوع فيها قياسا على ما لم يقبض ، ولأن الأب لفضل حنوه تباين أحكامه أحكام غيره فلا يعاديه ، ولا تقبل شهادته له ، ويجوز أن يتصرف في يديه بالتزويج ، وفي ماله بالعقود لفضل الحنو وانتفاء التهم ، فجاز أن يخالف غيره في جواز الرجوع في الهبة : لأن انتفاء التهمة تدل على أن رجوعه فيها لشدة الحاجة منه إليها ، ولأننا وأبا حنيفة قد أجمعنا على الفرق في الهبة بين الأجنبي وذي الرحم ، فلأن يكون الرجوع فيها مع ذي الرحم المباعض دون الأجنبي أولى منه أن يكون مع الأجنبي دون ذي الرحم لثلاثة أمور :

أحدها : النص المعاضد .

والثاني : البعضية الممازجة .

والثالث : التمييز بالأحكام المخصوصة ، وفي هذه المعاني جواب ، وجوابهم عن الاستدلال بالثواب ، فهو أنه إذا أثبت بالمال فقد وصل إليه البدل ، فلم يجز أن يصير جامعا بينه وبين المبدل ، فخالف من لم يصل إليه البدل على أن ثواب الله تعالى إنما يستحقه في الهبة غير الراجع فيها من الأب .

التالي السابق


الخدمات العلمية