الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ويفتي الملتقط إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن ووقع في نفسه أنه صادق أن يعطيه ، ولا أجبره عليه إلا ببينة : لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها ، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : اعرف عفاصها ووكاءها والله أعلم لأن يؤدي عفاصها ووكاءها معها ، وليعلم إذا وضعها في ماله أنها لقطة ، وقد يكون ليستدل على صدق المعرف ، أرأيت لو وصفها عشرة يعطونها ، ونحن نعلم أن كلهم كاذب إلا واحدا بغير عينه فيمكن أن يكون صادقا " .

قال الماوردي : وصورتها في رجل ادعى لقطة في يد واجدها ، فإن أقام البينة العادلة على ملكها وجب تسليمها له ، وإن لم يقم بينة لكن وصفها ، فإن أخطأ في وصفها لم يجز دفعها إليه ، وإن أصاب في جميع صفاتها من العفاص والوكاء والجنس والنعت والعدد والوزن ، فإن لم يقع في نفسه صدقه لم يدفعها إليه ، وإن وقع في نفسه أنه صادق أفتيناه بدفعها إليه جوازا لا واجبا ، فإن امتنع عن الدفع لم يجبر عليه ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال مالك وأحمد : يجبر على دفعها إليه بالصفة : استدلالا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ، فإن جاء طالبها - أو قال باغيها - فادفعها إليه ، فلما أخبر بمعرفة العفاص والوكاء دل على أنه كالبينة في الاستحقاق .

وروى سويد بن غفلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فإن جاء باغيها فعرفك عفاصها ووكاءها فادفعها إليه وهذا نص ، قالوا : ولأن كل أمارة غلب بها في الشرع صدق المدعي جاز أن يوجب قبول قوله كالقسامة ، قالوا : ولأن البينات في الأصول مختلفة ، وما تعذر منها في الغائب مخفف ، كالنساء المنفردات في الولادة ، وإقامة البينة على اللقطة متعذرة ، لا سيما على الدنانير والدراهم التي لا تضبط أعيانها ، فجاز أن تكون الصفة التي هي غاية الأحوال الممكنة أن تكون بينة فيها ، ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، فلم يجعل الدعوى حجة ولا جعل مجرد القول حجة بينة ، ولأن صفة المطلوب لا تكون بينة للطالب كالمسروق والمغصوب ، ولأن صفة المطلوب من تمام الدعوى ، فلم يجز أن تكون بينة للطالب قياسا على الطلب .

قال الشافعي - رحمه الله - محتجا عليهم : أرأيت لو وصفها عشرة ، أيعطونها ونحن نعلم أن كلهم كذبة إلا واحدا بعينه ؟ فرد عليه ابن داود فقال : كما لو ادعاها عشرة وأقام كل واحد عليها بينة نقسمها بينهم ، وإن كان صدق جميعهم مستحيلا ، كذلك إذا وصفوها كلهم . والجواب عن هذا من وجهين :

[ ص: 24 ] أحدهما : أن كذب المدعي أسقط للدعوى من كذب الشهود ، ألا ترى أن إكذاب المدعي لنفسه مبطلا للدعوى ، وإكذاب الشهود لأنفسهم غير مبطل للدعوى .

والثاني : أن البينة هي أقصى ما يقدر عليه المدعي وأقوى ما يحكم به الحاكم ، فدعت ضرورة الحاكم في البينة إلى ما لم تدعه من الصفة .

وأما الجواب عن قولهم : اعرف عفاصها ووكاءها فهو أن ذلك لا لدفعها بصفة العفاص والوكاء ووجوب رده معه ، ولكن لمعان هي أخص بمقصود اللفظ ، منها أنه نبه بحفظ العفاص والوكاء ووجوب رده مع قلته وندارته على حفظ ما فيه ووجوب رده مع كثرته ، ومنها أن يتميز بذلك عن ماله ، ومنها جواز دفعها بالصفة وإن لم يجب ، وعلى هذا حمل حديث سويد بن غفلة الذي جعلوه نصا ، وأما استدلالهم به فنحن ما جعلنا الأمارة على الصدق حجة في قبول الدعوى ، وإنما الأيمان بعدها حجة ، وهم لا يقولون بذلك في اللقطة بعد الصفة فدل على اختلافها .

وأما استدلالهم بأن البينات في الأصول مختلفة فصحيح ، وليس من جميعها بينة تكون بمجرد الصفة ولا يكون تعذر البينة موجبا أن تكون الصفة بينة ، ألا ترى أن السارق تتعذر إقامة البينة عليه ولا يكون صفة ما بيده لمدعي سرقته حجة ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية