الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : والقسم الثالث أن يجري عليه حكم الإسلام بنفسه إقرارا به واعترافا بشروطه ، فهذا على ضربين :

[ ص: 46 ] أحدهما : أن يكون ذلك بعد بلوغه ، فهذا مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم .

والضرب الثاني : أن يكون ذلك قبل بلوغه ، فهذا على ضربين : أحدهما : أن يكون ذلك منه في طفولته وعدم تمييزه ، فلا يكون بذلك مسلما : لأنه لا حكم لقوله ولا يصل إلى معرفة حق من باطل ولا صحيح من فاسد .

والضرب الثاني : أن يكون مراهقا مميزا يصل بذهنه إلى معرفة الحق من الباطل ويميز ما بين الشبهة والدليل ، ففي الحكم بإسلامه إذا وصفه على شروطه ثلاثة أوجه :

أحدها وهو الظاهر من مذهب الشافعي : أنه لا يصير مسلما : لقوله - صلى الله عليه وسلم - : رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه فرفع القلم عنه قبل البلوغ في جميع أحواله ، وجمع بينه وبين المجنون في سقوط تكليفه ، ولأن عقود المعاملات أخف حالا من شروط الإسلام ، فلما امتنع قبل البلوغ أن تصح منه العقود فأولى أن يمنع منه شروط الإسلام .

والوجه الثاني : وهو مذهب أبي حنيفة : أن يصير مسلما : لأنه قد يصل إلى معرفة الدليل كما يصل إليه البالغ وخالف الطفل والمجنون ، ولأن عليا - عليه السلام - أسلم قبل بلوغه فحكم بصحة إسلامه ، فعلى هذا إن بلغ فرجع عن الإسلام صار مرتدا .

والوجه الثالث : أن إسلامه يكون موقوفا ، فإن استدام ذلك بعد بلوغه علم أنه تقدم إسلامه ، وإن فارقه بعد البلوغ علم أنه لم يكن مسلما ، وعلى هذا الوجه يحتمل إسلام علي - عليه السلام - في قول من إسلامه إلى ما قبل البلوغ ، وأنه لما استدامه بعد البلوغ علم به صحة ما تقدم إسلامه ، فهذا حكم القسم الثالث .

والقسم الرابع أن يجري عليه حكم الإسلام بالدار ، وهذا هو اللقيط ، وقد قسمنا أحواله التي تجري عليه بها حكم الإسلام أو حكم الشرك ، فإن أجرينا عليه أحكام الشرك فبلغ ووصف الإسلام بعد بلوغه استوثق به حكم الإسلام من حينئذ ، وإن أقام على الشرك أقر عليه من غير تخويف ولا إرهاب ، وإن جرى عليه حكم الإسلام فذلك ضربان :

أحدهما : أن نجريه عليه في الظاهر والباطن على ما ذكرنا من التقاطه في بلاد الإسلام التي لا يدخلها مشرك ، فهذا لا يقبل منه بعد البلوغ الرجوع عنه ، ويكون إن رجع عنه مرتدا .

والضرب الثاني : أن يجري عليه حكم الإسلام في الظاهر دون الباطن ، فما لم يبلغ فحكم الإسلام جار عليه ، فإن مات غسل وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين ، وإن قتله مسلم فعليه دية مسلم ، وفي وجوب الاقتصاص منه قولان :

أحدهما : يقتص منه لجريان حكم الإسلام عليه .

والقول الثاني : لا يقتص منه لاحتمال حاله وأنه ربما وصف الكفر بعد بلوغه فلم يجز أن يراق دم بالشبهة ، فإن وصف الإسلام قولا وأقام عليه فعلا استقر حكم إسلامه وجرى القصاص على قاتله ، وإن رجع عنه إلى الشرك أرهب وخوف لرجوعه عن الإسلام ، فإن أبى إلا [ ص: 47 ] أن يكون مشركا سئل عن سبب شركه ، فإن قال : لأن أبي مشرك وصرت لاتباع أبي مشركا ، ترك لما اختاره من الشرك لاحتماله وأجري عليه أحكام الشرك : لأننا لم نكن حكمنا بإسلامه قطعا ، وإنما حكمنا به تغليبا .

فإن قال : لست أعرف دين أبي ولا أعلمه مسلما ولا مشركا ولكني أختار الشرك ميلا إليه ورغبة فيه ، ففيه وجهان :

أحدهما : يقبل منه : لأنه لم يكن مقطوعا بإسلامه . والوجه الثاني وهو الأصح : أنه لا يقبل منه ويجعل إن أقام عليه مرتدا إلا أن يدعي شرك أبيه فيقبل منه ويقر عليه ليكون في الشرك تبعا ولا يكون متبوعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية