الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : ثم إن الله تعالى فرض المواريث وقدرها وبين المستحقين لها في ثلاث آي من سورة النساء ، نسخ بهن جميع ما تقدم من المواريث ، فروى داود بن قيس عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت : يا رسول الله : إن سعدا [ ص: 70 ] هلك وترك بنتين ، وقد أخذ عمهما مالهما ، فلم يدع لهما مالا إلا أخذه ، فما ترى يا رسول الله ؟ فوالله لا ينكحان أبدا إلا ولهما مال ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقضي الله في ذلك فنزلت سورة النساء : يوصيكم الله في أولادكم [ النساء : 11 ] الآية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادعوا إلي المرأة وصاحبها فقال للعم : " اعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن ، وما بقي فلك " .

وروى ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : مرضت فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني هو وأبو بكر ماشيين ، وقد أغمي علي فلم أكلمه فتوضأ ثم صبه علي فأفقت فقلت يا رسول الله ، كيف أصنع في مالي ولي أخوات قال فنزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ النساء : 176 ] إلى آخر السورة ، وقال ابن سيرين : نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسير وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة ، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وهو يسير خلفه فبين الله تعالى في هذه الآي الثلاث ما كان مرسلا ، وفسر فبين ما كان مجملا ، وقدرت الفروض ما كان مبهما ، ثم بين بسنته - صلى الله عليه وسلم - ما احتيج إلى بيانه ، ثم قال بعد ذلك إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث ، رواه شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا إلى علم الفرائض وحث عليه : لأنهم كانوا على قرب عهد بغيره ، ولئلا يقطعهم عنه التشاغل بعلم ما هو أعم من عباداتهم المترادفة أو معاملاتهم المتصلة فيئول ذلك إلى انقراض الفرائض ، فروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : تعلموا الفرائض فإنها من دينكم وإنه نصف العلم وإنه أول ما ينتزع من أمتي وإنه ينسى . وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض ، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الرجلان في الفريضة لا يجدان من يخبرهما به ، وروى عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة ماضية أو فريضة عادلة .

[ ص: 71 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : أفرضكم زيد فاختلف الناس في تأويله على أقاويل :

أحدها : أنه قال ذلك حثا لجماعتهم على مناقشته والرغبة فيه كرغبته : لأن زيدا كان منقطعا إلى الفرائض بخلاف غيره .

والثاني : أنه قال له ذلك تشريفا وإن شاركه غيره فيه كما قال أقرؤكم أبي ، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ ، وأصدقكم لهجة أبو ذر ، وأقضاكم علي ، ومعلوم أن أعرف الناس هو أعرفهم بالفرائض وبالحلال والحرام : لأن ذلك من جملة القضاء .

والثالث : أنه أشار بذلك إلى جماعة من الصحابة كان أفرضهم زيدا ، ولو كان ذلك على عموم جماعتهم لما استجاز أحد منهم مخالفته .

والرابع : أنه أراد بذلك أنه أشد منهم عناية به ، وحرصا عليه ، وسؤالا عنه .

والخامس : أنه قال ذلك لأنه كان أصحهم حسابا ، وأسرعهم جوابا ، ولأجل ما ذكرناه من هذه المعاني أخذ الشافعي في الفرائض بقول زيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية