الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : واستدل من ورث الإخوة والأخوات مع الجد بقوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [ النساء 7 ] ، وبقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ الأحزاب 6 ] ، والجد والإخوة يدخلون في عموم الآيتين فلم يجز أن يخص الجد بالمال دون الإخوة ، ولأن الأخ عصبة يقاسم أخته فلم يسقط بالجد كالابن طردا وبني الإخوة والعم عكسا .

فإن قيل : هذا تعليل فاسد : لأن الأخ وإن عصب أخته يسقط بالأب وهو لا يعصب أخته ، فكذلك لا يمتنع أن تسقط بالجد الذي لا يعصب أخته .

قيل : إنما سقطوا بالأب لمعنى عدم في الجد وهو إدلاؤهم بالأب دون الجد ، ولأن قوة الأبناء مكتسبة من قوة الآباء ، فلما كان بنو الإخوة لا يسقطون مع بني الجد ، فكذلك الإخوة لا يسقطون مع الجد .

فإن قيل : فهذا الجمع يقتضي أن يكون الإخوة يسقطون الجد كما أن بني الإخوة يسقطون بني الجد وهم الأعمام .

قيل : إنما استدللنا بهذا على ميراث الإخوة لا على من سقط بالإخوة ، وقد دل على ميراثهم فصح ، ولأن كل من لا يحجب الأم إلى ثلث الباقي لا يحجب الإخوة كالعم طردا وكالأب عكسا ، ولأن كل سببين يدليان إلى الميت لشخص واحد لم يسقط أحدهما بالآخر كالأخوين وكابني الابن : لأن الأخ والجد كلاهما يدليان بالأب ، ولأن تعصيب الإخوة كتعصيب الأولاد : لأنهم يعصبون أخواتهم ويحجب الأم عن أعلى الوجهين ، ويفرض النصف للأنثى منهم ، والجد في هذه الأحوال كلها بخلافهم ، فكانوا بمقاسمة الجد أولى من سقوطهم به ، ولأن كل شخصين إذا اجتمعا في درجة واحدة وكان أحدهما يجمع بين التعصيب والرحم والآخر يتفرد بالتعصيب دون الرحم ، كان المتفرد بالتعصيب وحده أقوى ، كالابن إذا اجتمع مع الأب ، فلما كان الجد جامعا للأمرين والأخ مختص بأحدهما وجب أن يكون أقوى : لأن الجد والأخ كلاهما يدليان بالأب والجد يقول : أنا أبو أبي الميت ، والأخ يقول : أنا ابن أبي الميت ، فصار الأخ أقوى من الجد لثلاثة معان منها : أن الأخ يدلي بالبنوة والجد يدلي بالأبوة ، والإدلاء بالبنوة أقوى ، ومنها أن من يدليان به وهو الأب لو كان هو الميت لكان للجد من تركته السدس وخمسة أسداسها للابن ، ومنها أن الأخ قد شارك الميت في الصلب وراكضه في الرحم ، وإذا كان الأخ أقوى من الجد بهذه المعاني الثلاثة ، كان أقل أحواله أن يكون مشاركا له في ميراثه ، ثم يدل على ذلك ما جرى من نظر الصحابة فيه ، فروي أن عمر - رضي الله عنه - كان يكره أن يذكر فريضة في الجد حتى صار هو جدا ، وذلك أن ابنه عاصما مات وترك أولادا ، ثم مات أحد الأولاد فترك جده عمر وإخوته ، فعلم أنه أمر لا بد من النظر فيه ، فقام في الناس فقال : هل فيكم من أحد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الجد شيئا ؟ فقام رجل فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن فريضة الجد فأعطاه السدس ، فقال : من كان معه من الورثة ؟ فقال : لا أدري ، قال : لا دريت ، ثم قال آخر سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فريضة [ ص: 124 ] الجد فأعطاه الثلث ، فقال : من كان معه من الورثة ؟ قال : لا أدري قال : لا دريت ؟ ثم دعا زيد بن ثابت فقال : إنه كان من رأيي ورأي أبي بكر قبلي أن أجعل الجد أولى من الأخ فماذا ترى ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا يجعل شجرة خرج منها غصن ، ثم خرج من الغصن غصنان ، فيم تجعل الجد أولى من الأخ وهما خرجا من الغصن الذي خرج منه الجد ؟ ثم دعا علي بن أبى طالب وقال له مثل مقالته لزيد ، فقال علي : يا أمير المؤمنين لا تجعل واد سال فانشعبت منه شعبة ، ثم انشعبت من الشعبة شعبتان ، فلو رجع ماء إحدى الشعبتين دخل في الشعبتين جميعا فيم تجعل الجد أولى من الأخ ؟ فقال عمر : لولا رأيكما أجمع ما رأيت أن يكون ابني ولا أن أكون أباه .

قال الشعبي : فجعل الجد أخا مع الأخوين ومع الأخ والأخت ، فإذا كثروا ترك مقاسمتهم وأخذ الثلث ، وكان عمر - رضي الله عنه - أول جد ورث مع الإخوة في الإسلام ، فهذه القصة وإن طال الاحتجاج بها تجمع خبرا واحتجاجا ومثلا فلذلك استوفيناها .

فأما الجواب عن استدلالهم بأن الله تعالى سمى الجد أبا فهو أن اسم الأب انطلق عليه توسعا ، ألا ترى أن تسميته بالجد أخص من تسميته بالأب ؟ ولو قال قائل : هذا جد وليس بأب ، لم يكن مضلا ، والأحكام تتعلق بحقائق الأسماء دون مجازها ، ولا يتعلق عليه حكم الأب ، وكما تسمى الجدة أما ولا ينطلق عليها أحكام الأم .

وأما استدلالهم بأن طرفه الأدنى يستوي حكم أوله وآخره ، فكذلك طرفه الأعلى ، فالجواب عنه أن ابن الابن لما كان كالابن في حجب الأم كان كالابن في حجب الإخوة ، ولما كان الجد مخالفا للأب في حجب الأم إلى ثلث الباقي كان مخالفا للأب في حجب الإخوة ، فيكون الفرق بين الطرفين في حجب الأم هو الفرق بينهما في حجب الإخوة ، وأما قياسهم على الابن بعلة أنه عصبة لا يعقل .

فالجواب عنه أن استحقاق العقل دل على قوة التعصيب فلم يجز أن يجعل دليلا على ضعفه ، ألا ترى أن أقرب العصبات اختص بتحمل العقل من الأباعد ، لقوة تعصيبهم وضعف الأباعد ، وليس خروج الآباء والأبناء عن العقل عنه لمعنى يعود إلى التعصيب فيجعل دليلا على القوة ، كما لا يجوز أن يجعل دليلا على الضعف وذلك لأجل التعصيب ، ثم المعنى في الابن أنه لما كان أقوى من الأب أسقط الإخوة المدلين بالأب ، فلما لم يكن الجد أقوى من الأب لم يسقط الإخوة المدلين بالأب .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن الجد قد جمع الولادة والتعصيب كالأب فهو أن الأب إنما أسقطهم لإدلائهم به لا لرحمه وعصبته ، ألا ترى أن الابن وإن انفرد بالتعصيب وحده أقوى من الأب والجد ، وهكذا الجواب عن قولهم يجمع تعصيبا ورحما .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن إدلاء الجد بابن وإدلاء الأخ بأب فهو ما قدمناه دليلا من أن إدلاء الأخ بالبنوة وإدلاء الجد بالأبوة لإدلائهما جميعا بالأب ، فكان إدلاء الأخ أقوى .

[ ص: 125 ] وأما استدلالهم بولاية الجد في المال والتزويج فليس ذلك من دلائل القوة في الميراث ، ألا ترى أن الابن لا يلي ولا يزوج وهو أقوى من الأب وإن ولي وزوج .

وأما استدلالهم بأنه لو شاركه في موضع لشاركه في كل موضع ، فالجواب عنه أن كل موضع ورث الجد فيه بالتعصيب الذي شارك الأخ فيه فإنه يشاركه في ميراثه لا لميراثهما في نسبه ، وإنما لا يشاركه في الموضع الذي لا يرث الجد فيه بالرحم : لأنه ليس للأخ رحم يساويه فيها .

وأما استدلالهم بأن الجد لا يخلو من أحوال ثلاثة ، فالجواب عنه أن الجد والإخوة مجتمعون على الإدلاء بالأب فلم يضعف عنه الأخ للأب بعد الأم لمساواته فيما أدلى به ، كما لم يقو عليه الأخ للأب والأم بأمه ، وليس كذلك حال الإخوة حالهم بعضهم مع بعض : لأنهم يدلون بكل واحد من الأبوين ، فكان من جمعهما أقوى ممن انفرد بأحدهما ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية