الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ثم يدخل يده اليمنى في الإناء فيغرف غرفة لفيه وأنفه ويتمضمض ويستنشق ثلاثا ويبلغ خياشيمه الماء إلا أن يكون صائما فيرفق " .

قال الماوردي : اعلم أن الكلام في المضمضة والاستنشاق في فصلين :

أحدهما : في أصل المضمضة والاستنشاق هل هو واجب أو سنة .

والثاني : في صفته وكيفيته .

فأما الفصل الأول : في أصل المضمضة والاستنشاق : فقد اختلف الناس فيه على أربعة مذاهب .

أحدهما : وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه ومالك أنهما سنتان في الطهارة الصغرى التي هي الوضوء ، وفي الطهارة الكبرى التي هي الغسل .

والمذهب الثاني : وهو مذهب عطاء وابن أبي ليلى وإسحاق أنهما واجبتان في الطهارة الكبرى والصغرى معا .

والمذهب الثالث : وهو قول أحمد وداود وأبي ثور أن الاستنشاق واجب في الطهارتين الصغرى والكبرى والمضمضة سنة فيهما .

والمذهب الرابع : وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه وسفيان الثوري أنهما واجبتان في الطهارة الكبرى مسنونتان في الطهارة الصغرى واستدل من أوجبهما في الطهارتين بغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما وفعله بيان ، واستدل من أوجب الاستنشاق فيهما دون المضمضة بحديثأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ فليجعل في أنفه ماء ثم لينثره " وبحديث عاصم بن لقيط بن صبرة ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال : أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " .

[ ص: 104 ] واستدل أبو حنيفة على إيجابها في الطهارة الكبرى برواية مالك بن دينار ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة " قال : وفي الأنف شعر وفي الفم بشرة . وبما رواه يوسف بن أسباط ، عن سفيان ، عن سعيد ، عن خالد الحذاء ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة ، قال : ولأنه عضو سن غسله في الطهارة الصغرى فاقتضى أن يجب غسله في الطهارة الكبرى كالأذنين ، ولأن كل محل من البدن وجب تطهيره من النجاسة وجب تطهيره من الجنابة كالبشرة التي تحت شعر الوجه ، قال ولأن الفم والأنف في معنى ظاهر البدن من وجهين :

أحدهما : أن إيصال الماء إليهما لا يشق .

والثاني : أن حصول الطعام فيهما لا يفطر فوجب أن يكونا في إيصال الماء إليهما واجبا كظاهر البدن .

قال : ولأن اللسان يلحقه حكم الجنابة في المنع من قراءة القرآن فوجب أن يلحقه حكم الجنابة في التطهير بالماء ، والدليل على أن ذلك سنة وهو دليل الجنابة قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ النساء : 43 ] . فكان الغسل وحده غاية الحكم .

[ ص: 105 ] وروي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للغسل من الجنابة فقال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت " . فكان منه دليلان :

أحدهما : أنه على الاكتفاء بالإفاضة .

والثاني : قوله بعد ذلك فإذا أنت قد طهرت .

وروى جبير بن مطعم قال : تذاكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الجنابة فقال : " أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت " .

ومن طريق المعنى أنها طهارة عن حدث فوجب ألا يستحق فيها المضمضة والاستنشاق كغسل الميت ؛ ولأن ما لا يجب غسله من الميت لم يجب غسله من الجنب كالعينين .

فأما الجواب عن استدلاله بقوله تحت كل شعرة جنابة فهو أن هذا الحديث ضعيف لأن راويه الحارث بن وجيه ، عن مالك بن دينار وكان الحارث ضعيفا ولو صح لكان محمولا على ما ظهر من الشعر والبشر بدليل أن شعر العين لا يجب غسله .

فأما الجواب عن رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة ، أنه رواه بركة بن محمد الحلبي ، عن يوسف بن أسباط وكان بركة مشهورا بوضع الحديث على أنه يحمل على الاستحباب ويكون قوله فريضة يعني تقديرا ألا تراه جعل ذلك ثلاثا ، والثلاث استحباب وليس بفرض .

وأما الجواب عن قولهم : إن كان مسنونا في الطهارة الصغرى كان مفروضا في الطهارة الكبرى ، منتقض بالمبالغة في الاستنشاق والتكرار . وأما الجواب عن قولهم : إن كل محل وجب تطهيره من النجاسة وجب تطهيره من الجنابة فهو أنه منتقض بداخل العينين ؛ لأن غسله من النجاسة واجب ومن الجنابة غير واجب .

فإن قالوا داخل العينين لا يجب غسله ، من وجهين :

أحدهما : أنه صقيل لا يقبل النجاسة فهذه دعوى غير مسلمة على أن بطون الجفون غير صقيلة تقبل النجاسة .

والثاني : أنه أقل من الدرهم فهذا فاسد ؛ لأن الجفون الأربعة أكثر من الدرهم . [ ص: 106 ] وأما الجواب عن قولهم : إن الفم والأنف في معنى ظاهر البدن ، من وجهين :

أحدهما : أن إيصال الماء إليهما لا يشق فهذا يفسد بالحلقوم ؛ لأن إيصال الماء إليه بالشرب لا يشق . والثاني : أن حصول الطعام فيه لا يفطر وهذا يفسد بداخل العينين .

وأما الجواب عن قولهم : إنه يتعلق باللسان حكم الجنابة لمنعه من القراءة فهو أنه ليس يمتنع أن يتعلق حكم الحدث بعضو ثم يرتفع بغسل غيره كالمحدث هو ممنوع من حمل المصحف بشيء من جسده وإذا غسل أعضاءه الأربعة لم يمنع فهذا جواب ما استدل به أبو حنيفة .

وأما استدلال من أوجبهما في الطهارتين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لهما فالجواب عنه أنه ليس له فعل النبي صلى الله عليه وسلم محمولا على الإيجاب إلا أن يكون بيانا المجمل في الكتاب ، والطهارة معقولة غير مجملة ، وأما الجواب عما استدل به من أوجب الاستنشاق وحده بقوله : من توضأ فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر ، فهو أن ظاهره وإن كان يقتضي الوجوب فمعدول عنه بما ذكرنا إلى الاستحباب ، وأما الجواب عن حديث لقيط بن صبرة فهو أنه أمر بالمبالغة وتلك غير واجبة فلم يكن منه دليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية