الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 164 ] باب ميراث المجوس

قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " إذا مات المجوسي وبنته امرأته ، أو أخته أو أمه نظرنا إلى أعظم السببين فورثناها به وألقينا الآخر وأعظمهما أثبتهما بكل حال ، فإذا كانت أم أخت ورثناها بأنها أم ، وذلك لأن الأم تثبت في كل حال والأخت قد تزول ، وهكذا جميع فرائضهم على هذه المسألة ( وقال ) بعض الناس أورثها من الوجهين معا ، قلنا : فإذا كان معها أخت وهي أم ؟ ( قال ) أحجبها من الثلث بأن معها أختين وأورثها من وجه آخر بأنها أخت ( قلنا ) أوليس إنما حجبها الله تعالى بغيرها لا بنفسها ؟ ( قال ) بلى قلنا وغيرها خلافها ؟ قال : نعم ، قلنا : فإذا نقصتها بنفسها ، فهذا خلاف ما نقصها الله تعالى به أورأيت ما إذا كانت أما على الكمال كيف يجوز أن تعطيها ببعضها دون الكمال ؟ تعطيها أما كاملة وأختا كاملة وهما بدنان ، وهذا بدن واحد ؟ قال : فقد عطلت أحد الحقين . قلنا لما لم يكن سبيل إلى استعمالهما معا إلا بخلاف الكتاب والمعقول ، لم يجز إلا تعطيل أصغرهما لأكبرهما " .

قال الماوردي : إذا تزوج المجوسي أمه فأولدها ابنا كان الولد منها ابنها وابن ابنها وكانت له أما وجدة أم أب ، وكان للأب ابنا أخا لأم كان الأب له أبا وأخا لأم .

ولو تزوج المجوسي بنته فأولدها ابنا ، فكان الولد منه ابنا وابن بنت ، وكان الأب أبا وجد أب أم ، وكان الابن للبنت ابنا وأخا لأب وكانت له أما وأختا لأب .

ولو تزوج المجوسي أخته فأولدها ابنا كان الأب أباه وخاله ، وكان الابن له ابنا وابن أخت ، وكان للأخت ابنا وابن أخ ، وكانت له أما وعمة ، وقد تتفق هاتان المسألتان في وطء الشبهة ، فإذا كان ذلك في المجوسي وقد أسلموا أو تحاكموا إلينا في مواريثهم ، أو كان في المسلمين مع الشبهة ، فإن اجتمع فيه عقد نكاح وقرابة سقط التوريث بالنكاح لفساده وتوارثوا بالقرابة المفردة بالاتفاق ، وإن اجتمع في الشخص الواحد منهم قرابتان بنسب توجب كل واحدة منهما الميراث ، فإن كانت إحداهما تسقط الأخرى كأم هي جدة ، أو بنت هي أخت لأم ، ورثت بابنتها وألغيت المحجوبة منهما إجماعا ، وإن كان إحداهما لا تسقط الأخرى كأم هي أخت ، أو أخت هي بنت فقد اختلف الناس هل تورث بالقرابتين معا أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : أورثها بالقرابتين معا . وبه قال من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس ، ومن التابعين [ ص: 165 ] عمر بن عبد العزيز ومكحول ، ومن الفقهاء النخعي والثوري وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق .

وقال الشافعي أورثها بأثبت القرابتين وأسقط الأخرى ، ولا أجمع لها بين الميراثين ، وبه قال من الصحابة زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ومن التابعين الحسن البصري ، ومن الفقهاء مالك والزهري والليث وحماد ، واستدل من ورث بها بأن الله تعالى نص على التوريث بالقرابات ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألحقوا الفرائض بأهلها فلم يجز مع النص إسقاط بعضها .

قالوا : ولأن اجتماع السببين من أسباب الإرث عند انفصالها لا يمنع من اجتماع الإرث بهما ، كابني العم إذا كان أحدهما أخا لأم .

قالوا : لأن اجتماع القرابتين يفيد في الشرع أحد أمرين : إما التقديم كأخ للأب والأم مع الأخ للأب ، وإما التفضيل كابني العم إذا كان أحدهما أخا لأم ، ولا يجوز أن يكون اجتماعهما لغوا لا يفيد تقديما ولا تفضيلا لما فيه من هدم الأصول المستقرة في المواريث ولذلك لم يجز الاقتصار على إحدى القرابتين .

ودليلنا قوله تعالى : وإن كانت واحدة فلها النصف [ النساء 11 ] ، فلم يزد الله تعالى البنت على النصف ، وهم يجعلون للبنت إذا كانت بنت ابن النصف والسدس ، والنص يدفع هذا ، ولأن الشخص الواحد لا يجتمع له فرضان مقدران من ميت واحد كالأخت للأب والأم لا تأخذ النصف بأنها أخت لأب والسدس بأنها أخت لأم ، ولأن كل نسب أثبت الله تعالى به التوارث جعل إليه طريقا كالبنوة والمصاهرة ، فلما لم يجعل إلى اجتماع هاتين القرابتين وجها مباحا دل على أنه لم يرد اجتماع التوارث منهما ، وقد يتحرر منه قياسان :

أحدهما : أن ما منع الشرع من اجتماعهما في بدن واحد لم يجتمع التوارث بهما كالخنثى لا يرث بأنه ذكر وأنثى .

والثاني : أن سبب الإرث إذا حدث عن محظور لم يجز التوارث به كالأخت إذا صارت زوجة ، واستدل الشافعي بأن مجوسيا لو ترك أختا وأما هي أخته ، لم يخل أن تحجب الأم إلى السدس أو لا تحجب ، فإن لم تحجب فقد كمل فرض الأم مع الميراث الأختين وإن حجبت والله تعالى قد حجبها بغيرها وهم قد حجبوها بنفسها وذلك مخالف لحجب الله تعالى وحكم الشرع .

فأما الجواب عن استدلالهم بالظاهر فهو حمل المقصود بها على انفراد الأسباب اعتبارا بالعرف المعتاد دون النادر الشاذ ، وليس يجوز حملها على ما حظره الشرع ومنع العرف دون ما جاء الشرع به واستقر العرف عليه وقرابات المجوس الحادثة عن مناكحهم لم يرد بها شرع ولم يستقر عليها عرف ، وبهذا يجاب عن قياسهم على ابني أحدهما أخ لأم : لأن الشرع أباحه والعرف استمر فيه .

وأما استدلالهم بأن اجتماع القرابتين يفيد أحد أمرين من تقديم أو تفضيل ، ففاسد [ ص: 166 ] بالأخت من الأب والأم مع الزوج يأخذ النصف الذي تأخذه الأخت للأب على أن جمعها بين القرابتين يمنع من مساواة الأمرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية