الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من جواز الوصية دون وجوبها فالوصية تشتمل على أربعة شروط وهي : موص ، وموصى له ، وموصى به ، وموصى إليه .

فأما الفصل الأول وهو الموصي ، فمن شرطه أن يكون مميزا ، حرا ، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان صحت وصيته في ماله مسلما كان أو كافرا .

فأما المجنون : فلا تصح وصيته لأنه غير مميز ، وأما الصبي فإن كان طفلا غير مميز فوصيته باطلة ، وإن كان مراهقا ففي جواز وصيته قولان : أحدهما لا يجوز ، وبه قال أبو حنيفة واختاره المزني لارتفاع القلم عنه كالمجنون ، ولأن الوصية عقد فأشبهت سائر العقود ، والقول الثاني وبه قال مالك : أن وصيته جائزة لرواية عمرو بن سليم الزريقي ، قال : [ ص: 190 ] سئل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن غلام يبلغ من غسان أوصى لبنت عمه وله عشر سنين ، وله وارث ببلد آخر ، فأجاز عمر - رضي الله عنه - وصيته ، ولأن المعنى الذي لأجله منعت عقوده هو المعنى الذي لأجله أمضيت وصيته : لأن الحظ له في منع العقود : لأنه لا يتعجل بها نفعا ولا يقدر على استداركها إذا بلغ ، والحظ له في إمضاء الوصية : لأنه إن مات فله ثوابها وذلك أحظى له من تركه على ورثته ، وإن عاش وبلغ ، قدر على استداركها بالرجوع فيها ، فعلى هذا لو أعتق في مرضه أو حابى أو وهب ففي صحة ذلك وجهان :

أحدهما : أنه صحيح ممضي : لأن ذلك وصية تعتبر في الثلث .

والوجه الثاني : أنه باطل مردود : لأن الوصية يقدر على الرجوع فيها إن صح ، والعتق والهبة لا يقدر على الرجوع فيهما إن صح .

فأما وصية المحجور عليه بسفه ، فإن قيل بجواز وصية الصبي ، فوصية السفيه أجوز ، وإن قيل ببطلان وصية الصبي ، كانت وصية السفيه على وجهين ، لاختلافهم في تعليل وصية الصبي ، فإن علل في إبطال وصيته بارتفاع القلم عنه جازت وصية السفيه لجريان القلم عليه ، وإن علل في إبطال وصية الصبي بإبطال عقوده ، بطلت وصية السفيه لبطلان عقوده . وأما المحجور عليه بالفلس ، فإن ردها الغرماء بطلت ، وإن أمضوها جازت ، فإن قلنا : إن حجر الفلس كحجر المرض صحت ، وإن قلنا إنه كحجر السفيه كانت على وجهين .

وأما العبد فوصيته باطلة ، وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب : لأن السيد أملك منهم لما في أيديهم .

فأما الكافر فوصيته جائزة ، ذميا كان أو حربيا ، إذا وصى بمثل ما وصى به المسلم .

فأما الفصل الثاني : في الموصى له .

فتجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير وكبير ، وعاقل ومجنون ، وموجود ومعدوم ، إذا لم يكن وارثا ولا قاتلا .

فأما الوارث فلقوله - عليه السلام - : لا وصية لوارث ولو وصى لأحد ورثته كان في الوصية قولان : أحدهما : باطلة إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى إلا أن يستأنفه الورثة الباقون هبتها له بعد إحاطة علمهم بما يبذل منهم وقبول منه ، وقبض تلتزم به الهبة كسائر الهبات ، فتكون هبة محضة لا تجري فيها حكم الوصية ، وهذا قول المزني .

والثاني : أنها موقوفة على إجازة الباقين من الورثة ، كالوصية بما زاد على الثلث ، فإن أجازها الباقون من الورثة صحت ، وإن ردوها رجعت ميراثا وكان الموصى له به كأحدهم ، يأخذ فرضه منها ، وإن أجازها بعضهم وردها بعضهم صحت الوصية في حصة من [ ص: 191 ] أجازه ، وكان الموصى له في الباقي منها وارثا مع من رده ، ثم هل تكون إجازتهم على هذا القول ابتداء عطية منهم ، أو إمضاء ؟ على قولين .

وعلى كلا القولين لا تفتقر إلى بذل وقبول ، بخلاف القول الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية