الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الوصية للقاتل ففيها قولان :

أحدهما وهو مذهب مالك أنها جائزة وإن لم يرث ، كما تجوز الوصية للكافر وإن لم يرث ، ولأنه تمليك يراعى فيه القبول ، فلم يمنع منه القتل كالبيع .

وأما القول الثاني وبه قال أبو حنيفة : الوصية باطلة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس للقاتل وصية ، ولأنه مال يملك بالموت ، فاقتضى أن يمنع منه القاتل كالميراث ، على أن الميراث أقوى التمليكات ، فلما منع منه القتل كان أولى أن يمنع من الوصية .

فإذا تقرر هذان القولان ، فلا فرق أن يوصي له بعد جرحه إياه وجنايته عليه ، وبين أن يوصي له قبل الجناية ، ثم يجني عليه فيقتله في أن الوصية على قولين .

ولكن لو قال الموصي وليس بمجروح : قد وصيت بثلث مالي لمن يقتلني . فقتله رجل ، لم تصح الوصية قولا واحدا لأمرين :

أحدهما : لأنها وصية عقد على معصية .

والثاني : أن فيها إغراء بقتله .

فإن وصى بثلثه لقاتل زيد ، فإن كان قبل القتل لم يجز لما ذكرنا ، وإن كان بعد قتله جاز ، وكان القتل تعريفا . وهكذا لو وهب في مرضه لقاتله هبة أو حاباه في بيع ، أو أبرأه من حق ، فكل ذلك على قولين : لأنها وصية له تعتبر من الثلث . وهكذا لو أعتق في مرضه عبدا فقتل العبد سيده ، كان له في عتقه قولان : لأن عتقه وصية له .

ولكن لو وهب هبة في صحته ، أو أبرأ من حق أو حابى في بيع أو أعتق عبدا ، ثم إن الموهوب له قتل الواهب ، والمبرأ قتل المشتري ، والمحابى قتل المحابي ، والعبد المعتق قتل سيده ، كان ذلك كله نافذا ماضيا : لأن فعله في الصحة يمنع من إجرائه مجرى الوصية .

ولو جرح رجل رجلا ، ثم إن المجروح وصى للجارح بوصية ، ثم أجهز على الموصي آخر فذبحه جازت الوصية للجارح الأول : لأن الذابح الثاني صار قاتلا ، ولو لم يكن الثاني قد ذبحه ، ولكن لو جرحه صار الثاني والأول قاتلين ، فرد الوصية للأول على أحد القولين .

وإذا قتل المدبر سيده ، فإن قيل : إن التدبير وصية ، ففي بطلان عتقه قولان : لأنه يعتق من الثلث .

ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عتقها قولا واحدا لأمرين : أحدهما أن عتقها مستحق من رأس المال .

[ ص: 192 ] والثاني : أن في استبقائها على حالها إضرار بالورثة : لأنهم لا يقدرون على بيعها وخالف استيفاء رق المدبر للقدرة على البيعة .

ثم ينظر في أم الولد ، إذا كان قتلها عمدا ، فإن لم يكن ولدها باقيا قتلت قودا ، وإن كان باقيا سقط القود عنها : لأن ولدها شريك للورثة في القود منها ، وهو لا يستحق القود من أمه فسقط حقه ، وإذا سقط القود عنها في حق بعض الورثة ، سقط في حق الجميع .

ولو أن رجلا وصى لابن قاتله أو لأبيه أو لزوجته صحت الوصية : لأن الموصى له غير قاتل .

ولو أوصى لعبد القاتل لم تجز في أحد القولين : لأنها وصية للقاتل .

ولو أقر رجل لقاتله دين كان إقراره نافذا قولا واحدا : لأن الدين لازم وهو من رأس المال فخالف الوصايا .

ولو كان للقاتل على المقتول دين مؤجل ، حل بموت المقتول : لأن الأجل حق لمن عليه الدين لا يورث عنه ، وليس كالمال الموروث ، إذا منع القاتل منه صار إلى الورثة . وسواء كان القتل في الوصية عمدا أو خطأ ، كما أن الميراث يمنع منه قتل العمد والخطأ ، فلو أجاز الورثة للقاتل وقد منع منهما في أحد القولين ، كان في إمضائها بإجازتهم وجهان من اختلاف قوليه في إمضائهم الوصية للوارث .

فإن قلنا : إن الوصية للوارث مردودة ولا تمضي بإجازتهم ردت الوصية للقاتل ولم تمض بإجازتهم .

وإن قلنا : إنه يمضي الوصية للوارث بإجازتهم ، أمضت الوصية للقاتل بإجازتهم .

والأصح إمضاء الوصية للوارث بالإجازة ، ورد الوصية للقاتل مع الإجازة : لأن حق الرد في الوصية إنما هو للوارث لما فيه من تفضيل الموصى له عليهم فجازت الوصية له بإجازتهم ، وحق الرد في الوصية للقاتل إنما هو للمقتول ، لما فيه من حسم الذرائع المقضية إلى قتل نفسه ، فلم تصح الوصية بإجازتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية