الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 70 ] فصل : فإذا ثبت أن استقبال الكعبة فرض لا يجزئ أحدا صلاة فرض ولا نفل ولا جنازة ولا سجود سهو ولا تلاوة إلا أن يستقبل به الكعبة إلا في حالين استثناهما الشرع :

أحدهما : حال المتابعة والتحام القتال

والثانية : المتنفل في سفره سائرا ، وما سواهما يجب فيه استقبال الكعبة ، ولا يصح مع العدول عنها ، وإذا كان كذلك ، فالمتوجهون إليها على ستة أضرب :

أحدها : من فرضه المشاهدة

والثاني : من فرضه اليقين

والثالث : من فرضه الخبر

والرابع : من فرضه التفويض

والخامس : من فرضه الاجتهاد

والسادس : من فرضه التقليد

فأما الضرب الأول : وهو من فرضه المشاهدة وهو من كان بمكة : وليس بينه وبين الكعبة حائل من مشاهدتها ، ففرضه في استقبالها المشاهدة ، فلا تصح صلاته إلا أن يكون مشاهد الكعبة ، وقد شاهدها ، لأن ظلمة الليل المانعة من المشاهدة لا تمنع من جواز الصلاة إليها ، لتقدم المشاهدة ، ثم كل موضع من الكعبة يجوز الصلاة إليه ، لأن جملتها القبلة ، فأما الحجر ففيه وجهان :

أحدهما : أن استقباله في الصلاة جائز كالبيت ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة ، رضي الله عنها : صلي في الحجر فإنه من البيت

والوجه الثاني : أن استقباله وحده في الصلاة غير جائز وهو الصحيح ، لأن الحجر ليس من البيت قطعا ، وإحاطة وإنما هو من تغلبة الظن فلم يجز العدول عن اليقين ، والنص لأجله

وأما الضرب الثاني : وهو من فرضه اليقين فإنه لم يكن عن مشاهدة ، فهو من كان بمكة أو خارجا عنها بقليل ، وقد منعه من مشاهدتها حائط مستحدث من دار ، أو جدار ، ففرضه اليقين بالأسباب الموصلة إليه ، فإذا تيقنها صار إليها وإن لم يتيقنها لم يجز : لأن الحائل المستحدث لا يسقط فرض اليقين ، كما لو حال بينه وبين مشاهدة الكعبة رجل قائم ، وهكذا المصلي إلى كل قبلة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها بالمدينة ، وغيرها ، وهو على يقين من صوابها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يقر على الخطأ

وأما الضرب الثالث : وهو من فرضه الخبر فذلك على حالين :

[ ص: 71 ] أحدهما : الضرير بمكة أو غيرها من الأمصار ، فإن كان بمكة كان الخبر عن مشاهدة . وإن كان بغيرها من البلاد كان عن تفويض

والحال الثانية : البصير بمكة أو فيما قرب من ميقاتها إذا كان ممنوعا بحائل غير مستحدث من جبل أو أكمة فإنه يستخبر من على الجبل الحائل من المشاهدين

وأما الضرب الرابع : وهو من فرضه التفويض فهو الراحل إلى بلد كبير كثير الأهل قد اتفقوا على قبلتهم فيه ، كالبصرة وبغداد ، فيستقبل قبلتهم تفويضا لاتفاقهم ، لأنه يتعذر مع اتفاقهم على قديم الزمان ، وتعاقب الأعصار ، وكثرة العدد أن يكونوا على خطأ يستدركه الواحد باجتهاده

وأما الضرب الخامس : وهو من فرضه الاجتهاد فهو البصير إذا كان سائرا في بر ، أو بحر ، أو في قرية قليلة الأهل فعليه الاجتهاد في القبلة بالدلائل المنصوبة عليها ، وهل عليه في اجتهاده طلب العين أو الجهة ؟ ففيه قولان :

أحدهما : وهو الذي نقله المزني أن عليه في اجتهاده طلب الجهة دون العين ، وهو قول أبي حنيفة ، لأن العين مع البعد عنها يتعذر إصابتها ، ولأن الصف الواحد لو امتد حتى خرج عن طول الكعبة جازت صلاة جميعهم ، ولم يلزمهم أن يعدلوا عن استواء الصف منحرفين طلبا لموافقة العين فقد علم أن بعضهم عادل عن العين إلى الجهة

والقول الثاني : قاله في " الأم " أن الواجب عليه في اجتهاده طلب العين : فإن أخطأها إلى الجهة أجزأ : لأنه لما لزم الداني من الكعبة مصادفة عينها لزم النائي عنها في اجتهاده طلب عينها ، لأنه إنما يتوصل بالاجتهاد إلى ما كان يلزمه باليقين

وأما الضرب السادس : وهو من فرضه التقليد وهو الضرير في السفر يقلد البصير ليجتهد له في القبلة : لأنه بذهاب بصره قد فقد آلة الاجتهاد في القبلة ، فصار كالعامي يقلد العالم في الأحكام : لفقده ما يتوصل به إلى علمها

والفرق بين التقليد والخبر : أن التقليد يكون عن إخبار ، والخبر يكون عن يقين

والفرق بين التقليد والتفويض : أن التقليد يحتاج إلى سؤال وجواب ، والتفويض لا يحتاج إلى سؤال ولا جواب

التالي السابق


الخدمات العلمية