الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولو أوصى بأمة لزوجها وهو حر فلم يعلم حتى وضعت له بعد موت سيدها أولادا ، فإن قبل عتقوا ولم تكن أمهم أم ولد حتى تلد منه بعد قبوله بستة أشهر فأكثر لأن الوطء قبل القبول وطء نكاح ووطء القبول وطء ملك " .

قال الماوردي : اعلم أن لهذه المسألة ثلاث مقدمات لا يصح جوابها إلا بتقرير مقدماتها .

أحدها : الحمل هل يكون له حكم يختص به ، أو يكون تبعا لا يختص بحكم ؟ وفيه قولان : أحدهما أن له حكما مخصوصا ويصح أن يكون معلوما ، وأن الحامل إذا بيعت يقسط الثمن عليها وعلى الحمل المستجد في بطنها ؛ لأنه لما صح أن يعتق الحمل ، فلا يسري إلى أم ويوصى به لغير مالك الأم ، دلت على اختصاصه بالحكم وتمييزه عن الأم . والقول الثاني : أن الحمل يكون تبعا لا يختص بحكم ولا يكون معلوما ؛ لأنه لما سرى عتق الأم إليه صار تبعا لها كأعصابها ، ولما جاز أن يكون موجودا أو معدوما لم يجز أن يكون معلوما فهذه مقدمة .

والمقدمة الثانية : وهي أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر لا يجوز أن يحيا ولد وضع [ ص: 252 ] لأقل من ستة أشهر اعتبارا بالعرف المعهود ، ثم بالنص الوارد . قال تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] .

فلما كان الفصال حولين كاملين ، دل على أن الستة الأشهر الباقية هي أقل مدة الحمل .

فإن ولدت زوجة رجل لأقل من ستة أشهر من عقد نكاحها ، وولدت أمة لأقل من ستة أشهر من وطء سيدها ، كان الولد منتفيا عنه وغير لاحق به .

والمقدمة الثالثة : ملك الوصية متى يحصل للموصى له ويدخل في ملكه ؟ وفيه قولان منصوصان :

أحدهما : أنه يملك الوصية بالقبول ، واختلف أصحابنا فيما قبل القبول وبعد الموت ، على هذا القول ، هل تكون باقية على ملك الموصي ، أو داخلة في ملك الورثة ؟ على وجهين :

أحدهما وهو قول ابن سريج وأكثر البصريين : أن ملك الوصية منتقل عن الميت إلى ورثته ، ثم بالقبول يدخل في ملك الموصى له لزوال ملك الموصي بالموت .

والوجه الثاني وهو قول أبي إسحاق المروزي - وأكثر البغداديين : أن الوصية باقية على ملك الموصي بعد موته حتى يقبلها الموصى له فتدخل في ملكه بقبوله وتنتقل إليه عن الموصي ؛ لأن الوصية تملك عنه كالميراث .

ووجه هذا القول بأن الوصية تملك بالقبول هو أنها عطية ، فلم يجز أن يتقدم الملك على قبولها كالهبات .

قال الشافعي : " وهذا قول ينكسر " ا هـ .

والقول الثاني وهو أصحهما أن القبول يدل على حصول الملك بالموت ، فيكون الملك موقوفا ، فإن قبل حمل على تقدم ملكه ، وإن لم يقبل دل على عدم ملكه .

ووجه هذا القول هو أنه لما امتنع أن يبقى للميت ملك ، وأن الوارث لا يملك الإرث ، اقتضى أن يكون الملك موقوفا على قبول الموصى له ورده وحقه في القبول باق ، ما لم يعلم ، فإن علم ، فإن كان عند إنفاذ الوصايا وقسمة التركة فقبوله على الفور فاقبل ، وإلا بطل حقه في الوصية ، فأما بعد علمه وقبل إنفاذ الوصايا وقسمة التركة ، فمذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه : أن القبول فيه على التراخي لا على الفور ، فيكون ممتدا ما لم يصرح بالرد ، حتى تنفذ الوصايا وتقسم التركة ؛ لأنه لما لم يعتبر القبول مع الوصية ، اعتبر عند إنفاذ الوصية .

[ ص: 253 ] وحكى أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا أن القبول بعد علمه على الفور ؛ لأنها عطية كالهبات .

وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا : أن الوصية تدخل في ملك الموصى له بغير قبول ولا اختيار الميراث .

فاختلف أصحابنا في تخريجه قولا ثالثا للشافعي ، فخرجه أبو علي بن أبي هريرة وأكثر المتأخرين من أصحابنا قولا ثالثا تعليلا بالميراث .

وامتنع أبو إسحاق المروزي وأكثر المتقدمين من أصحابنا من تخريجه قولا ثالثا وتأولوا رواية ابن عبد الحكم بأحد تأويلين :

إما حكاية عن مذهب غيره ، وإما على معنى أنه بالقبول يعلم دخولها بالموت في ملكه .

وفرقوا بين الوصية والميراث بأن الميراث عطية من الله تعالى فلم يراعى فيها القبول ، والوصية عطية من آدمي فروعي فيها القبول .

فهذه مقدمات المسألة .

التالي السابق


الخدمات العلمية