الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا استقر ما اشتمل عليه هذا الباب من أحوال الأوصياء ، فلا يخلو حال الوصي من أحد أمرين :

إما أن يكون متطوعا ، أو مستعجلا . فإن تطوع فهي أمانة محضة ، أو استعجل فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون بعقد .

والثاني : بغير عقد .

فإن كان بعقد فهي إجارة لازمة يجب عليه القيام بما يضمنها وليس له الرجوع بها ، وإن ضعف عنها استأجر عليه من ماله من يقوم مقامه فيما ضعف عنه ، ولو الأجرة المسماة ، وإن كان بغير عقد فهي جعالة ، ثم هي ضربان : معينة وغير معينة .

فإن كانت معينة : كأنه قال : إن قام زيد بوصيتي له مائة درهم ، فإن قام بها غير زيد فلا شيء له ، وإن قام بها زيد وعمرو فلا شيء لعمرو ، وإن عاون زيدا فيها فلزيد جميع المائة ، وإن عمل لنفسه فليس لزيد إلا نصف المائة ؛ لأن له نصف العمل .

وإن كانت غير معينة : كقوله : من قام بوصيتي هذه فله مائة درهم ، فأي الناس قام بها وهو من أهلها فله المائة ، فإن قام بها جماعة ، كانت المائة بينهم ، وإذا قام بها واحد وكان كافيا ، منع غيره بعد العمل أن يشاركه فيها .

فإن رجع بعد شروعه في إنفاذ الوصايا والقيام بالوصية عن إتمامها لم يجبر ؛ لأن عقد الجعالة لا يلزم وجاز لغيره بعد رفع يده أن يتمم ما بقي وللأول من الجعالة بقدر عمله ، وللثاني بقدر عمله مقسطا على أجور أمثالها .

فإذا ثبت ما وصفنا لم يخل حال الوصي إذا كان مستعجلا من أحد أمرين :

إما أن يكون وصيا في كل المال أو في بعضه ، فإن كان وصيا في جميع ما وصى به لم يخل حال ما جعله له من الأجرة من ثلاثة أقسام :

[ ص: 351 ] أحدها : أن يجعله من رأس ماله . والثاني : من ثلثه . والثالث : أن يطلق .

فإن جعله من رأس ماله نظر ، فإن لم يكن في الأجرة محاباة ، كانت من رأس ماله ، وإن كانت فيها محاباة ، كانت أجرة المثل من رأس المال وما زاد عليها من المحاباة في الثلث يضارب بها أهل الوصايا .

فإن جعل ذلك من ثلثه ، كان في ثلثه ، فإن لم يكن في الأجرة محاباة وعجز الثلث عنها ، تمت له الأجرة من رأس المال .

فلو كان في الثلث مع الأجرة وصايا ، ففي تقديم الوصي بأجرته على أهل الوصايا وجهان :

أحدهما : يقدم بأجرته ؛ لأنها واجبة عن عمل لا محاباة فيه ، ثم يتمم ما عجز الثلث عنه من رأس المال .

والوجه الثاني : أن يكون مساويا لهم في المضاربة بها معهم في الثلث ؛ لأن لباقي أجرته محلا يستوفيه منه وهو رأس المال ، وهذان الوجهان بنيا على اختلاف الوجهين فيمن جعل حجة الإسلام من ثلثه وجعل دينه من ثلثه ، هل يقدم ذلك على أهل الوصايا أم لا ؟ فلو كان في أكرة هذا الوصي محاباة ، كانت أجرة المثل إذا عجز الثلث عنها متمة من رأس المال ، وكانت المحاباة وصية يضارب بها مع أهل الوصايا وسقط منها ما عجز الثلث عنه .

وإن أطلق أجرة الوصي ولم يجعلها من رأس ماله ولا من ثلثه ، فهي من رأس ماله إن لم يكن فيها محاباة ، إذا تعلقت بواجب من قضاء ديون وتأدية حقوق وكان ما تعلق بها مما ليس بواجب تبعا ، فإن كان في الأجرة محاباة كان قدر أجرة المثل من رأس المال وكانت المحاباة في الثلث يضارب بها أهل الوصايا ، فهذا حكم أجرة الوصي ، إذا كان وصيا في جميع المال .

فأما إذا كان وصيا في شيء دون غيره ، فهذا على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون وصيا في قضاء ديون وتأدية حقوق ، فأجرته إن لم يكن فيها محاباة تكن من رأس المال ؛ لأنها بدل عن واجب عليه ، وإن كان فيها محاباة كانت في الثلث يضارب بها أهل الوصايا .

فإن جعل كل الأجرة في ثلثه ولا محاباة فيها تممت ، وعند عجز الثلث عنها من رأس المال ودخلها دور ، كالحج إذا أوصى به في الثلث فعجز الثلث عنه فيكون على ما مضى .

والقسم الثاني : أن يكون وصيا في تفريق الثلث ، فأجرته تكون في الثلث ، فإن لم يكن [ ص: 352 ] فيها محاباة قدمتها على أهل الوصايا وجها واحدا ؛ لأنها مقابلة عمل يتعلق بإنفاذ وصاياهم ، وليس لها محل غير الثلث فلذلك يقدم بها .

وإن كان فيها محاباة ، تقدمهم بأجرة المثل وشاركهم في الثلث لمحاباته .

والقسم الثالث : أن يكون وصيا على أيتام ولده ، فإن أجرته عند إطلاق الموصي تكون في مال اليتيم إذا لم يكن فيها محاباة ويكون الوصي وكيلا مستأجرا بعقد الأب الموصي ، فإن كان في الأجرة محاباة ، كانت أجرة المثل في مال اليتيم وكانت المحاباة وصية ثلث الموصي يضرب بها مع أهل الوصايا .

فإن جعل الموصي جميع الأجرة في ثلثه كانت فيه ، فإن احتملها الثلث ، فلا شيء في مال اليتيم ولا خيار للوصي ، وإن عجز الثلث عنها ، فإن لم يكن فيها محاباة ضرب مع أهل الوصايا بجميع الأجرة وأخذ منها قدر ما احتمله الثلث ، ثم قسط الباقي في المسمى له على أجرة المثل والمحاباة ، فما بقي من أجرة المثل رجع به في مال اليتيم وما بقي من المحاباة يكون باطلا .

مثاله : أن يكون قد جعل له مائة درهم وأجرة مثله خمسون درهما وقدر ما احتمله الثلث من المائة خمسون درهما ، فإذا أخذها فقد أخذ نصف المسمى من أجرة المثل والمحاباة وبقي النصف خمسون درهما ، منها نصفها خمسة وعشرون درهما بقية أجرة مثله يرجع بها في مال اليتيم ونصفها خمسة وعشرون درهما نصيب المحاباة ، فتكون باطلة ويكون الوصي بالخيار في الفسخ لنقصان ما عاقد عليه ، فإن فسخ أقام الحاكم من أمنائه من يقوم مقامه من غير أجرة ؛ لأن الحاكم نصب للقيام بذلك ورزقه وأجور أمنائه من بيت المال .

فإن لم يكن ببيت المال مال يدفع أجرة أمين ، ولا وجد متطوعا ، كانت أجرته في مال اليتيم .

وأكثر هذه المسائل يدخلها دور وطريق عمله ما ذكرنا في الحج ، فصار محصول هذا الفصل في إطلاق أجرة الوصي إذا لم يكن فيها محاباة أن ينظر ، فإن كان وصيا في البعض نظر ، فإن كان وصيا في تأدية حقوق فأجرته من رأس المال .

وإن كان وصيا في تفريق ثلث فأجرته مقدمة في الثلث ، وإن كان وصيا على يتيم فأجرته في مال اليتيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية