الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 404 ] باب تفريق الغنيمة

مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " كل ما حصل مما غنم من أهل دار الحرب من شيء قل أو كثر ، من دار أو أرض أو غير ذلك قسم إلا الرجال البالغين فالإمام فيهم مخير بين أن يمن ، أو يقتل ، أو يفادي ، أو يسبي . وسبيل ما سبي ، أو أخذ منهم من شيء على إطلاقهم سبيل الغنيمة . وفادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا برجلين " .

قال الماوردي : اعلم أن جميع ما ظهر عليه المسلمون عنوة من المشركين على ثلاثة أقسام :

قسم هي أموال منقولة وقسم هي أرض ثابتة وقسم هم آدميون مقهورون .

فأما الأموال المنقولة : كالفضة والذهب والسلاح والآلة والعروض والأمتعة والخيل والرقيق ؛ فالواجب إخراج خمسها لأهل الخمس على ما يأتي بيانه ، ثم يقسم أربعة أخماسها بين جميع من شهد الواقعة بالسوية من غير تفضيل إلا ما استحقه الفارس بفرسه ، ولا يفضل ذا شجاعة على غيره ولا من قاتل على من لم يقاتل ، ولا يعطي من الغنيمة من لم يشهد الواقعة .

وقال أبو حنيفة : للإمام أن يفاضل بينهم في القسم وليس له أن يعطي من لم يحضر الواقعة استدلالا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاضل بين الناس في غنائم حنين .

وقال مالك : يجوز أن يفاضل بينهم ويعطي منها من لم يحضر معهم ؛ استدلالا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم من غنائم بدر لثمانية لم يشهدوا بدرا ، منهم عثمان وطلحة .

والدليل عليهما عموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] ، فاقتضى أن يكون الباقي بعد الخمس لمن غنم ، كما قال : وورثه أبواه فلأمه الثلث [ النساء : 11 ] فدل على أن الباقي للأب ؛ إذ اقتضت الآية أن يكون أربعة أخماس الغنيمة للغانمين ؛ أوجب بذلك التسوية ما لم يرد نص بالتفضيل وأن لا يشاركهم غيرهم لظاهر التنزيل .

وروى عبد الله بن عمرو أن رجلا أخذ من المغنم جبة غزل من شعر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أخذت هذه لأصلح بها برذعة بعيري ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب [ ص: 405 ] فهو لك ، فقال الرجل : أما إذ بلغت ما أرى فلا أرب لي بها ؛ فلو جاز التفضيل لفضل بهذا القدر اليسير ؛ ولأن ما اشتركوا في سبب تملكه أوجب تساويهم في ملكه كالاشتراك في صيد واحتشاش . فأما تفضيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس في غنائم حنين ، فإنما فعل ذلك بالمؤلفة قلوبهم ، فألف عددا منهم ، كل واحد منهم بمائة بعير ، منهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، واستعتب العباس بن مرداس فقال :


أتجعل نهبي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع     وما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس في مجمع     وما كنت دون امرئ منهما
ومن تضع اليوم لا يرفع



فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اقطعوا لسانه عني . وأمر له بخمسين بعيرا
. وكان ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من إعطاء المؤلفة قلوبهم إما من سهمه من الخمس ، وإما لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبت بحنين مع ثمانية من أصحابه وانهزم جميع الناس : فصارت جميع الغنائم له ، فصنع بها ما شاء وتألف بها من شاء ؛ ولذلك قالت الأنصار - حين رأوه قد تألف قريشا - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عزم أن يرجع إلى قومه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا معشر الأنصار ، إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع ، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاة والبعير وتنصرفون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا : رضينا . فكان ما فعله من التفضيل بحنين محمولا على ما ذكرنا ، وأما غنائم بدر فكانت خالصة له فوضعها فيمن شاء من حاضر وغائب على تساو وتفضيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية