الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما ما لا ينفل من الدور والأرضين فحكمه عندنا حكم الأموال المنفولة ، يكون خمسه لأهل الخمس ، وتقسم أربعة أخماسه بين الغانمين .

وقال أبو حنيفة : الإمام في الأرضين مخير بين ثلاثة أشياء ، بين أن يقسمها على الغانمين ، أو يقسمها على المسلمين ، أو يقرها في أيدي أهلها المشركين بخراج يضربه عليها وجزية على رقاب أهلها ، تصير خراجا بعد إسلامهم لا تسقط عن رقابهم .

وقال مالك : قد صارت بالغلبة وقفا على المسلمين . فأما أبو حنيفة فاستدل بما روي عن عمر بن الخطاب لما فتح أرض السواد ، أراد أن يقسمه بين الغانمين ، فشاور علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهما - فقال دعها تكون عدة للمسلمين ، فتركها ولم يقسمها وضرب عليها خراجا وروي أنه لما فتحت مصر وكان الأمير عمرو بن العاص ، قال له الزبير اقسمها بين الغانمين ، فقال : لا حتى أكتب إلى عمر ، فكتب إليه فأجابه عمر دعها حتى يغدو [ ص: 406 ] فيهما حبل الحبلة ، ولأنه لما جاز أن يصالحهم على خراجها قبل القدرة ، جاز أن يكون مخيرا فيها بعد القدرة كالرقاب .

وأما مالك فاستدل بقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ الحشر : 15 ] ، فكان هذا الدعاء منهم لأجل ما انتقل إليهم من فتوح بلادهم التي استبقوها وقفا عليهم ، وبما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة فلم يقسمها وقسم غنائم هوازن ولم يقسم أرضهم : فدل على أن الأرض تصير وقفا لا يجوز أن تقسم ، ولأن الغنائم كانت على عهد من سلف من الأنبياء تنزل نار من السماء تأكلها ؛ فأحلها الله تعالى بعدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته ، والنار إنما تختص بأكل المنقول دون الأرضين فدل على اختصاص المنقول بالغنيمة المستباحة دون الأرضين .

والدلالة عليها عموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] وروى مجمع بن جارية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم خيبر بين الغانمين على ثمانية عشر سهما ؛ وذلك أن الغانمين كانوا ألفا وأربعمائة ، منهم مائتا فارس أعطى كل فارس ثلاثة أسهم ، فكان لهم ستمائة سهم ولألف ومائتي رجل ألف ومائتا سهم : صارت جميع السهام ألفا وثمانمائة سهم فقسمها على ثمانية عشر منهم وأعطى كل مائة سهما ، ولذلك روي أن عمر - رضي الله عنه - ملك مائة سهم من خيبر ابتاعها وقال لرسول الله إني قد أصبت ما لم أصب قط مثله وقد أحببت أن أتقرب إلى الله تعالى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس الأصل وسبل الثمرة : فدلت قسمتها وابتياع عمر لها لمائة سهم منها على أنها طلق مملوك ومال مقسوم .

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على بني قريظة ، فقسم عقارهم من الأرضين والنخيل قسمة الأموال .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : عصبة الله ورسوله فخمسها لله ورسوله ، ثم هي لكم مني إنما قربة ، ولأنه مال مغنوم ، فوجب أن يقسم كالمنفول ، ولأن ما استحق به قسمة المنفول استحق به قسمة غير المنفول كالميراث .

وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة أن عمر - رضي الله عنه - شاور عليا - عليه السلام - في قسم السواد ، فأشار عليه بالترك ، فهو أن عمر - رضي الله عنه - قسم أرض السواد بين الغانمين ، وأشغلوه أربع سنين ، ثم رأى أن الغانمين قد تشاغلوا به عن الجهاد : فاستنزلهم عنه فنزلوا : وترك جرير بن عبد الله البجلي وأكثر قومه وكانت نخيله ربع الناس ، فأبت طائفة منهم أن [ ص: 407 ] ينزلوا فعاوضهم عنه ، وجاءته أم كرز فقالت : إن أبي شهد القادسية وإنه مات ، ولا أنزل عن حقي إلا أن تركبني ناقة زلولا عليها قطيفة حمراء ، وتملأ كفي ذهبا ، ففعل حتى نزلت عن حقها ، وكان قدر ما ملئ به كفها ذهبا نيفا وثمانين مثقالا . فلولا أن قسمة ذلك واجبة ، وأن أملاك الغانمين عليها مستقرة ؛ لما استنزلهم عنها بطيب نفس ومعاوضة . فلما صارت للمسلمين شاور عليا فيها ، فقال : دعها تكون عدة لهم ، فوقفها عليهم وضرب عليها خراجا هو عند الشافعي أجرة وعند أبي العباس بن سريج ثمن . وأما أرض مصر فبعض فتوحها عنوة وبعضها صلحا ، ولم يتعين نزاع عمرو والزبير في أحدهما ولم يكن فيه دليل .

وأما الجواب عن قياسه عن الرقاب فهو أنه منتقض بالمنفول ، فإن عمر صالح نصارى العرب على مضاعفة الصدقة على مواشيهم وزروعهم وسائر أموالهم ؛ وكان ذلك خراجا باسم الصدقة ، ثم لا يمنع ذلك من وجوب قسمه في الغنيمة كذلك الأرضون ، ثم لو سلم من هذا النقص لكان المعنى في الرقاب أنها ليست في وقت خيار الإمام فيها مالا ، وإنما يصير بالاسترقاق مالا وليس للإمام بعد الاسترقاق خيار .

وأما الجواب عن استدلال مالك بقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم [ الحشر : 10 ] ، فهو أن هذا منهم لم يتعين أنه للمعنى الذي ادعاه وقد يكون ذلك منهم لتمهيد الأرض لهم وإزالة المشركين عنهم ونصرة الدين بجهادهم ، ثم بما صار إليهم من بلاد الفيء ومواريث العنوة .

وأما الجواب عن فتح مكة فهو أن مكة فتحت عندنا صلحا ، فالكلام في فتحها يأتي ، وأما أرض هوازن فلم تغنم لأن قتالهم لم يكن فيها ، وإنما قوتلوا بعد خروجهم منها إلى حنين وأحرزوا أموالهم في أوطاس ، فلما أظفر الله تعالى بهم وغنمت أموالهم وسبيت ذراريهم ، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلون إليه بحرمة الرضاع : لأن حليمة مرضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت من هوازن ، وقالوا لو كنا ملحنا للحارث بن أبي شمر ونزلنا معه منزلنا منك لوعى ذاك ، وأنت خير الكفيلين .

وقولهم ملحنا : أي : رضعنا ، وأنشد شاعرهم :


امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر     امنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك تملؤه من محضها الدرر



فقال : اختاروا أموالكم أو ذراريكم ، فقالوا : خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا فنختار أحسابنا على أموالنا ، فقال : أما ما كان لي ولبني هاشم فلله ولكم ، وقال المهاجرون والأنصار : وأما ما لنا فلله ولرسوله ولكم فانكفوا إلى ديارهم التي لا تملك عليهم آمنين وقد أسلموا .

وأما الجواب عن استدلالهم بأكل النار المنفول دون الأرضين ، فكان هو المغنوم ، فهو [ ص: 408 ] أنه استدلال ركيك وضعه إسماعيل بن إسحاق القاضي ، ثم فيه دليل على أن الأرض لم تكن تحل للأنبياء من قبل ، فوجب أن تحل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - لقوله : أعطيت ما لم يعط نبي من قبلي : أحلت لي الغنائم على أن النار لا تأكل الفضة ، والذهب . ولا يمنع ذلك من أن تكون غنيمة مقسومة كذلك الأرض .

التالي السابق


الخدمات العلمية