الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ثم يعرف عدد الفرسان والرجالة الذين حضروا القتال فيضرب كما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفرس سهمين وللفارس سهما وللراجل سهما ، وليس يملك الفرس شيئا إنما يملكه صاحبه لما تكلف من اتخاذه واحتمل من مؤنته وندب الله تعالى إلى اتخاذه لعدوه " .

قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا أفرد الإمام خمس الغنيمة على أربعة أخماسها يبدأ بالغانمين ، فقسم فيهم أربعة أخماس الغنيمة وقدمهم على أهل الخمس لثلاثة معان :

أحدها : لحضورهم وغيبة أهل الخمس .

والثاني : أنه في مقابلة اجتهادهم ، فصار معاوضة ، وحق أهل الخمس مواساة .

والثالث : أن بهم ملك أهل الخمس خمسهم ، فكانوا أقوى في الغنيمة منهم ، فإذا شرع في قسمتها فيهم لم يخل حالهم من ثلاثة أقسام :

إما أن يكونوا رجالة لا فارس فيهم ، أو فرسانا لا رجال فيهم ، أو يكونوا فرسانا ورجالا .

فإن كانوا رجالة لا فارس فيهم ، أو فرسانا لا رجال فيهم سوى بينهم وقسمها على أعداد رءوسهم ، ولم يفضل شجاعا على جبان ولا محاربا على كاف : لأن جميعهم حاضر مكثر ، ورد مهيب ، كما يسوى في المواريث بين البار والعاق والمحسن والمسيء لتساويهم في النسب .

[ ص: 415 ] وإن كانوا فرسانا ورجالة فضل الفارس على الراجل .

واختلفوا في قدر ما يفضل به ، فذهب الشافعي إلى أنه يعطي الفارس ثلاثة أسهم ، سهما له وسهمين لفرسه ، ويعطي الراجل سهما واحدا ، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن سيرين ، ومن الفقهاء مالك مع أهل المدينة ، والأوزاعي مع أهل الشام ، والليث بن سعد مع أهل مصر ، وأحمد وإسحاق مع أصحاب الحديث ، والثوري وأبو يوسف ومحمد مع أهل العراق ، إلا أبا حنيفة وحده فإنه تفرد عنهم فذهب إلى أنه يعطي الفارس سهمين والراجل سهما ، استدلالا برواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الفارس سهمين ، فبرواية المقداد قال : أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهما لي وسهما لفرسي ، وبرواية مجمع بن حارثة الأنصاري قال : قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة ، فمنهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين : والراجل سهما : لأنه جعل لثلاثمائة فارس ستمائة سهم حتى صار لكل مائة منهم سهم واحد من خيبر .

ومن القياس : أنه حيوان يسهم له ، فوجب ألا يزاد على سهم كالراجل ، ولأن الفرس تبع ؛ ألا تراه لو حضر بلا صاحبه لم يسهم له ! ولو حضر صاحبه بلا فرس أسهم له ، ولا يجوز أن يكون سهم التابع أفضل من سهم المتبوع ؛ ولأن عناء صاحبه أكثر تأثيرا وتأثيره أظهر : لأنه هو المقاتل دون الفرس . وسهم الغنيمة إنما يستحق بحسب العناء وعلى قدر البلاء : فلم يجز أن يفضل ما قل تأثيره على ما كثر ، قال أبو حنيفة : لأن في إعطاء الفرس سهمين وصاحبه سهما تفضيلا للبهيمة على الآدمي ، وإني لأستحي أن أفضل بهيمة على آدمي .

قال أصحابه : ولأن القياس يقتضي أن لا يسهم للفرس : لأنه آلة كالسلاح ، ولأنه بهيمة كالبغال ، ولكن صرنا إلى إعطائه سهما واحدا بالإجماع ، ومنع القياس من الزيادة عليه .

ودليلنا ما رواه عبيد الله بن عمرو العمري عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم للراجل ولفرسه ثلاثة أسهم ، سهما له وسهمين لفرسه . وهذا حديث صحيح رواه أئمة الحديث وقد روى جابر وأبو هريرة مثله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب وطلحة والزبير قالوا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهم للفارس [ ص: 416 ] ثلاثة أسهم : سهما له وسهمين لفرسه وهذا إخبار عن استدامة فعله . لكن الحديث الأول أشهر وأصح : لأن مدار هذا على بشر بن معاذ وفيه لين .

وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم .

وروى الشافعي أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم ، سهم له : وسهمين لفرسه ، وسهم لأمه صفية : لأنها من ذوي القربى وكل هذه الأخبار نصوص تمنع من الخلاف .

فإن قيل : فيحمل السهم الثالث في هذه الأخبار على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفعه إلى الفارس نفلا كما نفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة ؛ فعن ذلك أربعة أجوبة :

أحدها : أن السهم عبارة عن المستحق لا عن النفل .

والثاني : أن النفل يستحق بالشرط وليس في الفرس شرط .

والثالث : أن النفل لا يكون للفرس .

والرابع : أن حكم السهم الثالث كحكم السهمين المتقدمين ، فلما لم يكونا نفلا لم يكن الثالث نفلا .

ثم الدليل من جهة القياس أنه مقدر يزيد على مقدر على وجه الرفق ، فوجب أن يكون بالضعف قياسا على المسح على الخفين ؛ لما مسح المقيم يوما وليلة أرفق المسافر بثلاثة أيام ولياليهن ، ولأن مؤنة الفرس أكثر لما يتكلف من علوفه وأجرة خادمه وكثرة آلته فاقتضى أن يكون المستحق به أكثر ، ولأنه في الحرب أهيب وتأثيره في الكر والفر أظهر ، فاقتضى أن يكون سهمه أوفر .

فأما الجواب عن حديث عبيد الله بن عمرو العمري فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه عند أصحاب الحديث ضعيف وأخوه عبد الله أقوى عندهم منه وأصح حديثا ، وقد روينا عنه خلاف ما رواه .

والوجه الثاني : أن خبر عبد الله أزيد من خبره والأخذ بالزيادة أولى .

والثالث : أنه يحمل سهم الفارس على الزيادة التي استحقها بفرسه على السهم الراتب لنفسه فيصير ذلك ثلاثة أسهم كما روينا استعمالا للروايتين ، فيكون أولى من إسقاط [ ص: 417 ] إحداهما بالأخرى ، كما روي في صلاة العيدين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا فحملنا ذلك على التكبير الزائد على التكبيرة الراتبة في الإحرام والقيام .

وأما حديث المقداد فقد روت عنه بنته كريمة أنه قال : أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أسهم : سهما لي وسهمين لفرسي . فتعارضت الروايتان عنه وسقطتا واستعملتا على ما وصفنا .

وأما حديث مجمع بن حارثة فعنه جوابان :

أحدهما : ما قاله أبو داود أن مجمعا وهم في حديثه ، أنهم كانوا ثلاث مائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس .

والثاني : أنه قد روي عنه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة فهم مائتا فارس . وهذه الرواية أصح من وجهين :

أحدهما : أن رواية ابن عباس توافقها .

والثاني : أن هذا الجيش هم أهل الحديبية ، وقد اتفق أهل السير على أن عدتهم ألف وأربعمائة . وأما الجواب عن قياسهم على الراجل لعلة أنه حيوان يسهم له فهو أن الفرس لا يسهم له وإنما يسهم لصاحبه لأجله ، فكان الوصف غير سليم ، ثم المعنى في الفرس أن مؤنته أكثر وبلاءه أظهر ، فجاز أن يكون ما يستحق به أكثر ، وأما قولهم أنه تابع فلا يجوز أن يكون سهمه أكثر من سهم المتبوع .

فالجواب عنه أن كلا السهمين للمتبوع ليس للتابع سهم وهو أكثر ، على أن ذلك لو جاز أن يمنع من الزيادة لجاز أن يمنع من المساواة : لأنه إذا لم يجز أن يزيد على المتبوع لم يجز أن يساويه .

وأما قولهم إن عناء صاحبه أكثر لأنه هو المقاتل ، فالجواب عنه أن كلا العنائين مضاف إلى صاحبه إلا أن تأثيره لفرسه أكثر من تأثيره لنفسه : لأنه بالفرس يلحق إن طلب ولا يلحق إن هرب .

وأما قول أبي حنيفة : " إنني أستحي أن أفضل بهيمة على آدمي " ، فيقال له : لئن استحييت أن تفضل بينهما فاستح أن تساوي بينهما وأنت قد سويت .

ثم يقال له : ألست قد فضلت قيمة البهيمة إذا تلفت على ذمة الحر إذا قتل ولم يوجب ذلك الاستحياء ، فكذلك في السهم على أنه ليس السهم للبهيمة فيستحي من تفضيلها به وإنما هو لصاحبها والبهيمة لا تملك .

وأما قولهم أن القياس يمنع من السهم للبهيمة ، فهذا قياس قد أبطله النص فبطل .

[ ص: 418 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية