الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : " فإن كان رجل جلد ، يعلم الوالي أنه صحيح مكتسب ، يغني عياله أو لا عيال له يغني نفسه بكسبه لم يعطه " .

قال الماوردي : وهذا كما قال ، المكتسب بصنعته قدر كفايته وكفاية عياله لا يكون فقيرا وتحرم عليه الزكاة وإن لم يكن له مال . وقال أبو حنيفة : لا تحرم عليه الزكاة ، وإن كان مكتسبا حتى يملك نصابا تجب فيه الزكاة ، أو ما يبلغ قيمته نصابا ؛ فجعل الفقر معتبرا بعدم النصاب وإن [ ص: 491 ] كان قادرا على كفايته بنفسه ، وجوز له أخذ الزكاة وجعل الغناء معتبرا بملك النصاب وإن عجز عن كفايته وحظر عليه أخذ الزكاة استدلالا لقوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين [ التوبة : 60 ] والفقير هو العادم ، وهذا عادم وإن كان مكتسبا ، وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم فميز الأغنياء بأخذ الصدقة منهم وميز الفقراء بدفع الصدقة إليهم ، فوجب أن يكون من تؤخذ منه الصدقة غنيا ، وإن كان غير مكتسب ، ومن تدفع إليه فقيرا ، وإن كان مكتسبا .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من سألنا أعطيناه وقال : أعطوا السائل ولو جاء على فرس وقد سأل المكتسب ، فوجب أن يعطى ، ولأنه لا يملك نصابا ولا قيمته ، فوجب أن يكون فقيرا تحل له الصدقة قياسا على غير المكتسب ، ولأنه لما لم يكن المكتسب غنيا في وجوب الحج والتكفير بالعتق لم يكن غنيا في تحريم الزكاة ، ولأنه لما حلت الزكاة من سهم الغارمين حلت له من سهم الفقراء والمساكين ، ودليلنا ما رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألاه من الصدقات فصعد النظر فيهما وصوب وقال : " إن شئتما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب " فجعل الكسب كالغنى بالمال في تحريم الصدقات .

وروى سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي قدرة فحرم الصدقة بالقدرة على الكسب كما حرمها بالغنى ، ولأنه مستديم القدرة على كفايته ، فوجب أن تحرم عليه الزكاة بالفقر والمسكنة كالقادر على نصاب ، أو كالمشتغل لوقف ؛ ولأن من حرمت عليه المسألة حرمت عليه الصدقة كالغني ، ولأنه لما كان الاكتساب كالغنى في سقوط نفقته عن والديه ومولوديه ووجوبها عليه لوالديه ومولوديه كان كالغنى في تحريم الصدقات .

فأما الجواب عن الآية فهو أن الفقر ليس العدم وإنما هو الحاجة ؛ والمكتسب غير محتاج . وأما الجواب عن قوله : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم فهو أنه قد يكون في الناس من لا تؤخذ منه ولا تدفع إليه فهو مالك ما لا يزكى ، فكذلك المكتسب ، فجاز أن يكون منهم من تؤخذ منه فتدفع إليه وهو مالك ما يزكى إذا كان غير مكتسب .

وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : من سألنا أعطيناه فهو أن معناه من أظهر لنا الفقر قبلنا منه : لأن الأصل في الناس العدم .

[ ص: 492 ] وأما قوله : أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، فهو دليلنا : لأن أبا حنيفة يمنعه إذا كان ثمن فرسه نصابا ونحن نعطيه إذا كان محتاجا .

وأما قياسه على غير المكتسب فالمعنى فيه الحاجة ، والمكتسب غير محتاج .

وأما قوله : " لما لم يكن الاكتساب كالمال في وجوب الحج والتكفير بالعتق كذلك في تحريم الزكاة " فهو فاسد بنفقات الأقارب التي يجعل الاكتساب فيها كالمال ، ثم وجوب الحج والتكفير بالعتق يتعلقان بوجود المال والمكتسب غير واجد وتحريم الزكاة يتعلق بالكفاية والمكتسب مكتف ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية