الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " فإن قال الجلد لست مكتسبا لما يغنيني ولا يغني عيالي وله عيال وليس عند الوالي يقين ما قال ؛ فالقول قوله ، واحتج بأن رجلين أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألاه من الصدقة فقال " إن شئتما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب " . ( قال الشافعي ) رأى عليه الصلاة والسلام صحة وجلدا يشبه الاكتساب فأعلمهما أنه لا يصلح لهما مع الاكتساب ولم يعلم أمكتسبان أم لا ، فقال " إن شئتما " بعد أن أعلمتكما أن لا حظ فيها لغني ولا لمكتسب فعلت " .

قال الماوردي : وهذا صحيح إذا تقرر فرق ما بين الفقير والمسكين بما ذكرنا فخص رجل ادعى فقرا مسكنة فللوالي على الصدقة ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يعلمه فقيرا فيدفع إليه لعلمه من سهم الفقراء ولا يكلفه ببينة ولا يمينا . والحال الثانية : أن يعلمه غنيا ، فلا يدفع إليه من سهم الفقراء شيئا ، فإن ادعى تلف ماله لم يقبل قوله إلا ببينة ، فإن أقامها على تلف ماله الذي كان به غنيا سمعها من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، وسواء كانت بينته من أهل المعرفة الباطنة أم لا ، وإن أقام البينة على فقره لم يسمعها إلا من أهل المعرفة الباطنة به : لأنه قد يستر الغنى ويتظاهر بالفقر فلم تسمع منه البينة بعد تقدم العلم بغناه إلا ممن يعرف باطن أمره من أقاربه وجيرانه ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لقبيصة بن المخارق : إن المسألة حرمت إلا في ثلاث ، ذكر فيها : أو رجل أصابته عادية الخبر ، إلى أن قال : حتى يشهد له ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إن تدخلت له المسألة فاختلف أصحابنا في الثلاثة هل يكونون شرطا في بينته أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الثلاثة تغليظا وأن شهادة العدلين مجزئة .

والثاني : أن الثلاثة ها هنا شرط ، فعلى هذا هل يكون شهادة ، أو خبرا ؟ على وجهين :

أحدهما : أنها شهادة غلظت يراعى فيها عدالة الشهود في الحقوق لنقلها خلاف المعلوم .

[ ص: 493 ] والوجه الثاني : أنه خبر لزم فيه الاحتياط فميز بعدد وروعي فيه صدق المخبرين لا عدالة الشهود .

والحالة الثالثة : أن يجهل الوالي أمره ولا يعلمه غنيا ولا فقيرا ، فلا يخلو حال السائل من أحد أمرين :

إما أن يكون ظاهره موافقا لمسألته ، أو مخالفا لها ، فإن كان ظاهره موافقا لمسألته لما عليه من سمات الفقر والفاقة ودلائل الضر في ضعف بدنه ورثاثة هيئته ، فهذا يعطى من سهم الفقراء تعويلا على شاهد حاله من غير قول يوعظ به ولا يمين يحلف بها ، وإن كان ظاهره مخالفا لمسألته وهو أن يكون قوي البدن حسن الهيئة ، فينبغي للوالي أن يقول له على طريق الوعظ والإخبار بحال من يحل له الصدقة ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذين سألاه الصدقة فصعد النظر فيهما وصوب ، ثم قال : " إن شئتما ! ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب " ، فإذا قال له هذه المقالة وأقام على المسألة وأنه يستحق الصدقة أعطاه منها : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجلين : " إن شئتما " فدل على أن ذلك لهما . وهل يحلف على فقره قبل الدفع إليه أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : لا يحلف : لأن الأصل الفقر ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عرض اليمين على الرجلين .

والوجه الثاني : يحلفه على فقره : لأن ظاهره بخلاف قوله ، فأما إن ادعى عيالا ففي قبول قوله فيهم وجهان :

أحدهما : لا يقبل قوله في دعوى العيال إلا ببينة تشهد بهم : لأنها دعوى تخالف الظاهر .

والوجه الثاني : أنه يقبل قوله فيهم كما يقبل قوله في نفسه لاختصاصهم به وإضافتهم إليه ، لكن لا تقبل إلا يمين يحلف بها وجها واحدا : لأنه يستزيد بها على حق نفسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية