الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما أحمد فاستدل برواية ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سأل الناس وهو غني كانت مسألته يوم القيامة خموشا ، أو خدوشا ، أو كدوحا في وجهه ، قيل : يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال : خمسون درهما أو عدلها .

وأما أبو حنيفة فاستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم فجعل المأخوذ منه غير المدفوع إليه ، قالوا : ولأنه مالك لنصاب من مال ، فوجب أن يكون غنيا تحرم عليهالصدقة أصلا إذا كان له كفاية على الدوام ، قالوا : ولأن اعتبار الكفاية لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يعتبروا كفاية زمان المقدر ، أو كفاية العمر ، فلم يجز أن يعتبر كفاية العمر لأنه مجهول ، وأما الزمان المقدر فلستم في اعتباره بسنته بأولى من اعتباره بأقل منها أو أكثر فبطل اعتبار الكفاية ، ودليلنا حديث قبيصة بن المخارق أنه تحمل بحمالة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فقال : نؤدها عنك من نعم الصدقة ، يا قبيصة ، إن المسألة حرمت إلا في ثلاثة : رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ثم يمسك ، ورجل أصابته حاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن به حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ثم يمسك ، وما سوى ذلك من المسألة فهو سحت .

فدل نص هذا الخبر على أن الصدقة تحل بالحاجة وتحرم بإصابة القوام من العيش وهو الكفاية على الدوام من غير أن يعتبر النصاب ، ولأن من عجز عن الكفاية الدائمة زال عنه حكم الغنى كالذي لا [ ص: 521 ] يملك نصابا ؛ ولأن ملك النصاب والحاجة معنيان مختلفان يجوز اجتماعهما فجاز اجتماع حكمهما وهما أخذ الصدقة منه بالنصاب ودفعها إليه بالحاجة كالعشر ، ولأنه لما لم يكن ملك قيمة النصاب من المتاع والعروض يمنع من أخذ الصدقة لأجل الحاجة لم يكن ملك النصاب مانعا منها لأجل الحاجة .

وتحريره أنه ذو حاجة فلم تحرم عليه الصدقة بالقدرة على نصاب كمالك المتاع .

وأما الجواب عن استدلال أحمد بحديث ابن مسعود فهو أنه لم يقصد به تحديد الغنى في جميع الناس ، وإنما أراد به من كانت كفايته خمسين درهما ، بدليل ما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سأل الناس وله قيمة أوقية فقد ألحف ، يعني : لمن كان مكتفيا بها .

وروى سهل ابن الحنظلية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سأل وعنده ما يغنيه فقد استكثر من النار ، قيل : وما يغنيه ؟ قال : قدر ما يغديه ويعشيه وهذا فيمن يكتسب بصنعته قدر عشائه وغدائه .

وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم فهو أنه قصد بذلك إنما يأخذه من صدقاتهم ليس يأخذه لنفسه وأهله ، وإنما يرده على فقرائهم من ذوي الحاجات وليس يمنع أن يكون المأخوذ منه مردودا عليه كالعامل وابن السبيل وكالمأخوذ منه العشر والعشر عندنا زكاة ، وأما إذا كان واجدا للكفاية فتحرم عليه الزكاة لوجود الكفاية ، لا يملك النصاب فلم يصح قياسهم .

وأما استدلالهم بأنه لا يخلو اعتبار الكفاية من أن يكون بالعمر أو بزمان مقدر فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فكان مذهب أبي العباس بن سريج إلى أنه معتبر بزمان مقدر وهو سنة وذلك أولى من اعتباره بأقل منهما أو أكثر : لأن الزكاة تجب بعد سنة ، فاعتبر في مستحقها لكافية السنة ، وذهب سائر أصحابنا إلى أنه يعتبر في ذلك كفاية العمر ولئن كان العمر مجهولا فالكفاية فيه لا تجهل : لأن كفاية الشهر من أجل معين أو صنعة تدل على كفاية العمر وإن جهل .

فإن قيل : فقد يمرض فيعجز عن الكسب ، أو يغلو السعر ، فلا يكتفى بذلك القدر .

قيل : إذا كان ذلك صار حينئذ من أهل الصدقة كما أنه قد يجوز أن يملك النصاب فيصير من أهل الصدقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية