الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : قال الشافعي : " وأحسبه يقول وتنقل سهمان أهل الصدقات إلى أهل الفيء إن جهدوا وضاق الفيء وينقل الفيء إلى أهل الصدقات إن جهدوا وضاقت الصدقات على معنى إرادة صلاح عباد الله ( قال الشافعي ) وإنما قلت بخلاف هذا القول لأن الله - جل وعز - [ ص: 551 ] جعل المال قسمين أحدهما في قسم الصدقات التي هي طهرة فسماها الله لثمانية أصناف ووكدها ، وجاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم لا فقراء غيرهم ، ولغيرهم فقراء ، فلا يجوز فيها عندي والله أعلم أن يكون فيها غير ما قلت من ألا تنقل عن قوم وفيهم من يستحقها ولا يخرق سهم ذي سهم منهم إلى غيره وهو يستحقه ، وكيف يجوز أن يسمي الله تعالى أصنافا فيكونوا موجودين معا فيعطي أحدا سهمه وسهم غيره ، ولو جاز هذا عندي جاز أن يجعل في سهم واحد جميع سهام سبعة ما فرض لهم ، ويعطى واحد ما لم يفرض له ، والذي يخالفنا يقول لو أوصى بثلثه لفقراء بني فلان وغارمي بني فلان رجل آخر وبني سبيل وبني فلان رجل آخر . إن كل صنف من هؤلاء يعطون من ثلثه ، وأن ليس لوصي ولا وال أن يعطي الثلث صنفا دون صنف وإن كان أحوج وأفقر من صنف : لأن كلا ذو حق بما سمي له . وإذا كان هذا عندنا وعند قائل هذا القول فيما أعطي الآدميون أن لا يجوز أن يمضي إلا على ما أعطوا ، فعطاء الله أولى ألا يجوز أن يمضي إلا على ما أعطى .

( قال ) وإذا قسم الله الفيء وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أربعة أخماسه لمن أوجف على الغنيمة للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم ، ولم نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضل ذا غناء على من دونه ولم يفضل المسلمون الفارس أعظم الناس غناء على جبان في القسم ، وكيف جاز لمخالفنا في قسم الصدقات وقد قسمها الله تعالى أمين القسم بعضا دون بعض وينقلها عن أهلها المحتاجين إليها إلى غيرهم ؛ لأن كانوا أحوج منهم ، أو يشركهم معهم ، أو ينقلها عن صنف منهم إلى صنف غيره ، ( أرأيت ) لو قال قائل لقوم أهل غزو كثير أوجفوا على عدو أنتم أغنياء ، فآخذ ما أوجفتم عليه فأقسمه على أهل الصدقات المحتاجين إذا كان عاما سنة لأنهم من عيال الله تعالى ، هل الحجة عليه ، إلا أن من قسم الله له بحق فهو أولى به وإن كان من لم يقسم له أحوج منه ؟

وهكذا ينبغي أن يقال في أهل الصدقات ، وهكذا لأهل المواريث لا يعطى أحد منهم سهم غيره ولا يمنع من سهمه لفقر ولا لغنى ، وقضى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته إلى مخلاف عشيرته . ففي هذا معنيان :

أحدهما : أنه جعل صدقته وعشره لأهل مخلاف عشيرته ، لم يقل لقرابته دون أهل المخلاف ، والآخر أنه رأى أن الصدقة إذا ثبتت لأهل مخلاف عشيرته لم تحول عنهم صدقته وعشره بتحوله عنهم وكانت كما يثبت بدءا ، فإن قيل : فقد جاء عدي بن حاتم أبا بكر - رضي الله عنه - بصدقات والزبرقان بن بدر ، فهما وإن جاءا بها فقد تكون فضلا عن أهلها ، ويحتمل أن يكون بالمدينة أقرب الناس بهم نسبا ودارا ممن يحتاج إلى سعة من مضر وطيء من اليمن [ ص: 552 ] ويحتمل أن يكون من حولهم ارتدوا فلم يكن لهم فيها حق ، ويحتمل أن يؤتى بها أبو بكر - رضي الله عنه - ثم يردها إلى غير أهل المدينة وليس في ذلك خبر عن أبي بكر نصير إليه . فإن قيل : فإنه بلغنا أن عمر - رضي الله عنه - كان يؤتى بنعم من الصدقة فبالمدينة صدقات النخل والزرع والناس والماشية ، وللمدينة ساكن من المهاجرين والأنصار ، وحلفاء لهم وأشجع وجهينة ومزينة بها وبأطرافها وغيرهم من قبائل العرب ، فعيال ساكني المدينة بالمدينة ، وعيال عشائرهم وجيرانهم وقد يكون عيال ساكني أطرافها بها وعيال جيرانهم وعشائرهم فيؤتون بها وتكون مجمعا لأهل السهمان كما تكون المياه والقرى مجمعا لأهل السهمان من العرب ، ولعلهم استغنوا فنقلها إلى أقرب الناس بهم وكانوا بالمدينة ، ( فإن قيل ) فإن عمر - رضي الله عنه - كان يحمل على إبل كثيرة إلى الشام والعراق ، فإنما هي - والله أعلم - من نعم الجزية : لأنه إنما يحمل على ما يحتمل من الإبل ، وأكثر فرائض الإبل لا تحمل أحدا . وقد كان يبعث إلى عمر بنعم الجزية فيبعث فيبتاع بها إبلا جلة فيحمل عليها ( وقال ) بعض الناس مثل قولنا في أن ما أخذ منهم فسبيله سبيل الصدقات ) .

قال الماوردي : وهذه مسألة سادسة أراد بها أهل العراق ، ولعل أبا حنيفة معهم فإنهم جوزوا نقل الصدقات إلى أهل الفيء ونقل الفيء إلى أهل الصدقات اعتبارا بشدة الحاجة ، ثم اختلفوا بعد النقل هل يقضى من نقل عنه سهمه إذا اتسع مال المنقول إليه ، فمنهم من أوجب القضاء ، ومنهم من أسقطه ، وعند الشافعي لا يجوز نقل الصدقة إلى أهل الفيء وإن جهدوا ، ولا نقل الفيء إلى أهل الصدقات وإن جهدوا . ويقسم كل واحد من الحالين في أهله : لأن الله تعالى سمى لكل مال مالكا ، فلم يجز أن يعدل به عنه لما فيه من إبطال النص ، ولأنه لما لم يجز أن يعدل بالغنيمة عمن سماه الله تعالى فيها انقيادا لحكم النص ، وإن كان غيرهم أشد ضرورة وأمس حاجة لم يجز في مال الفيء والصدقات أن يعدل به عن حكم النص ، ولأنه لما كانت عطايا الآدميين من الوصايا لا يجوز أن يعدل بها عمن سميت له فعطايا الله تعالى أولى ، ولأنه لما لم يجز أن يعدل بالمواريث عمن سماه الله تعالى إلى من هو آثر وأحوج ، فكذلك مال الفيء والصدقات ، ولأن عمر - رضي الله عنه - كان يسم إبل الصدقة ميسما وإبل الجزية ميسما ؛ فلولا تميز المستحق لكل واحد من المثالين لما ميز بالميسم .

فإن قيل : فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يحمل على إبل كثيرة من إبل الصدقة إلى الشام والعراق فدل على جواز دفع الصدقة إلى أهل الفيء .

قال الشافعي جوابا عن هذا : إن عمر إنما كان يحمل على إبل الجزية لا على إبل الصدقة : لأن أكثر فرائض الإبل في الصدقات لا يحمل عليه ، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يبعث إليه بنعم الجزية فيبعث بها فيبتاع بها إبلا يحمل عليها .

[ ص: 553 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية