الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من تخييرهن انتقل الكلام إلى حكم الاختيار .

فإن قيل : عليه السلام خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن وبين اختيار الآخرة فيمسكهن ، لم يقع بهذا الاختيار طلاق حتى يطلقهن ، وعليه أن يطلقهن إن اخترن الدنيا كما طلق فاطمة بنت الضحاك : لقوله تعالى : إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا [ الأحزاب : 28 ] . والسراح الجميل يحتمل ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنه الصريح من الطلاق دون الكناية لئلا يراعى فيه النية .

والثاني : أنه أقل من ثلاث لتمكن فيه الرجعة . [ ص: 12 ] والثالث : أن يوفي فيه الصداق ويدفع فيه المتعة ، فإن طلق المختارة منهن أقل من ثلاث ، فهل يقع طلاقها بائنا لا يملك فيه الرجعة أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : أنه يكون كطلاق غيره من أمته رجعيا .

والوجه الثاني : أنه يكون بائنا لا رجعة فيه ، لأن الله تعالى غلظ عليه في التخيير ، فيغلظ عليه الطلاق ، وفي تحريمهن بذلك على التأبيد وجهان :

أحدهما : لا يحرمن على التأبيد يكون سراحا جميلا .

والوجه الثاني : قد حرمن على الأبد ، لأنهن اخترن الدنيا على الآخرة ، فلم يكن من أزواجه في الآخرة ، فهذا حكمهن إذا قيل إن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان تخييرا بين الدنيا والآخرة ، فأما إذا قيل - وهو الأظهر من القولين - : أنه خيرهن بين الطلاق أو المقام ، فتخيير غيره من أمته يكون كناية يرجع فيه إلى نية الزوج في تخييرها ، وإلى نية الزوجة في اختيارها .

وقال مالك : وهو صريح ، فإن لم تختر نفسها كان صريحا في طلقه بائن .

وقال أبو حنيفة : إن لم تختر نفسها لم تطلق ، وإن اختارت نفسها كان صريحا في طلقه بائن لا يرجع فيه إلى نية أحد منهما ، وللكلام عليهما موضع يأتي .

وأما تخيير النبي صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان :

أحدهما : أنه كناية لتخيير غيره يرجع فيه إلى نيتهما .

والوجه الثاني : أنه صريح في الطلاق ، لا يراعى فيه النية : لخروجه مخرج التغليظ على نبيه ، ثم هل يكون بائنا يوجب تحريم الأبد أم لا ؟ على ما ذكرنا من الوجهين ، ثم تخيير غيره من أمته يراعى في اختيار الزوجة على الفور فمتى تراخى اختيارها بطل ، لأنه يجري مجرى الهبة في تعجيل قبولها على الفور ، فأما تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لهن في هذه الحال ففيه وجهان :

أحدهما : يراعى فيه تعجيل الاختيار على الفور ، فإن تراخى بطل حكمه ، لما ذكرنا من اعتباره بقبول الهبة التي هو وغيره من أمته فيها سواء .

والوجه الثاني : أن اختيارهن على التراخي لما اختصصن به من النظر لأنفسهن بين الدنيا والآخرة ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : - رضي الله عنها - حين خيرها : " استأمري أبويك " فلولا أنه على التراخي لكان بالاستئمار يبطل الاختيار .

التالي السابق


الخدمات العلمية