الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : وقال الله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] .

قال الماوردي : وهذا مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح تخفيفا أن ينكح بلفظ الهبة : لأن الشافعي بدأ بذكر ما خص به في النكاح تغليظا ، وذلك في ثلاثة أشياء :

وجوب التخيير ، وتحريم الطلاق ، وتحريم الاستبدال بهن .

ثم عقبه بذكر ما خص به تخفيفا ، فمن ذلك أن إباحة الله تعالى أن يملكه نكاح الحرة بلفظ الهبة من غير بدل يذكر مع العقد ، ولا يجب من بعد فيكون مخصوصا به من بين أمته من وجهين :

أحدهما : أن يملك نكاح الحرة بلفظ الهبة ، ولا يجوز ذلك لغيره من أمته .

والثاني : أن يسقط منه المهر ابتداء مع العقد ، وانتهاء فيما بعده ، وغيره من أمته يلزمه المهر فيما بعد .

وقال أبو حنيفة : إنما اختص بسقوط المهر وحده ، وهو وأمته سواء في جواز العقد بلفظ الهبة .

وقال سعيد بن المسيب : إنما خص بسقوط المهر ، وليس له ولا لغيره من أمته أن يعقد بلفظ الهبة ، وبه قال من الصحابة أنس بن مالك ، وذهب إليه بعض أصحاب الشافعي ، والدليل على تخصيصه بالأمرين ، وإن كان للكلام مع أبو حنيفة موضع يأتي ، وقوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] والهبة تتميز بلفظها عقدا وسقوط المهر فيها بدلا ، وقد جعلها خالصة له من دون المؤمنين ، فلم يجز لأحد من أمته أن يشاركه في واحد من الحكمين .

وفي الآية قراءتان : إحداهما : " أن وهبت " بالفتح وهو خبر عما مضى ، والقراءة الأخرى بالكسر ، وهو شروط في المستقبل ، فاختلف العلماء ، هل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت له نفسها بحسب اختلافهم في هاتين القراءتين ، فمن قرأ بالكسر وجعله شرطا في المستقبل ، قال : لم يكن [ ص: 16 ] عنده امرأة موهوبة ، وبه قال مجاهد ، ومن قرأ بالفتح جعله خبرا عن ماض ، قال : قد كانت عنده امرأة وهبت له نفسها ، واختلفوا فيها على أربعة أقاويل :

أحدها : أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب ، وكانت امرأة صالحة . وهذا قول عروة بن الزبير .

والثاني : أنها خولة بنت حكيم . وهذا قول عائشة .

والثالث : أنها ميمونة بنت الحارث . وهذا قول ابن عباس .

والرابع : أنها زينب بنت خزيمة أم المساكين ، امرأة من الأنصار . وهذا قول الشعبي ، وإذا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم من وهبت له نفسها ، أو شرط له في المستقبل أن تقبل من وهبت له نفسها خالصة من دون المؤمنين ، كان دليلا قاطعا على من خالف .

وروي عن سهل بن سعد الساعدي : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله قد وهبت نفسي منك ، فقال : ما لي في النساء من حاجة ، فلو لم يكن له أن يقبلها لأنكر عليها هبتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية