الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 149 ] باب المرأة لا تلي عقدة النكاح

قال الشافعي رحمه الله : " قال بعض الناس زوجت عائشة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر ، وهو غائب بالشام ، فقال عبد الرحمن : أمثلي يفتات عليه في بناته ؟ ( قال ) فهذا يدل على أنها زوجتها بغير أمره ، قيل : فكيف يكون أن عبد الرحمن وكل عائشة لفضل نظرها إن حدث حدث أو رأت في مغيبه لابنته حظا أن تزوجها احتياطا ، ولم ير أنها تأمر بتزويجها إلا بعد مؤامرته ، ولكن تواطئ وتكتب إليه ، فلما فعلت قال : هذا وإن كنت قد فوضت إليك ، فقد كان ينبغي أن لا تفتاتي علي ، وقد يجوز أن يقول زوجي ، أي وكلي من يزوج ، فوكلت قال : فليس لها هذا في الخبر ، قيل : لا ، ولكن لا يشبه غيره : لأنها روت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل النكاح بغير ولي باطلا ، أو كان يجوز لها أن تزوج بكرا وأبوها غائب دون إخوتها أو السلطان ( قال المزني رحمه الله ) معنى تأويله فيما روت عائشة عندي غلط : وذلك أنه لا يجوز عنده إنكاح المرأة ووكيلها مثلها ، فكيف يعقل بأن توكل ، وهي عنده لا يجوز إنكاحها ، ولو قال إنه أمر من ينفذ رأي عائشة فأمرته فأنكح خرج كلامه صحيحا : لأن التوكيل للأب حينئذ ، والطاعة لعائشة ، فيصح وجه الخبر على تأويله الذي يجوز عندي ، لا أن الوكيل وكيل لعائشة - رضي الله عنها - ولكنه وكيل له فهذا تأويله " .

قال الماوردي : وقد مضى الكلام في أن النكاح لا يصح إلا بولي ذكر ، وأن المرأة لا يجوز أن تعقد نكاح نفسها ، فكذلك لا يجوز أن تلي نكاح غيرها لا بولاية ولا بوكالة ، ولا يصح منها فيه بذل ولا قبول .

وقال أبو حنيفة : يجوز أن يتولاه لنفسها ولغيرها نيابة ووكالة تكون فيه باذلة أو قابلة ، فأما نكاح نفسها قد مضى الكلام معه فيه ، وأما نكاح غيرها نيابة ووكالة فاستدل على جواز أن تتوكل فيه وتباشر غيره بما روي أن عائشة زوجت بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان غائبا بالشام بمنذر بن الزبير ، فلما قدم ، قال : أمثلي يفتات عليه في بناته : وأمضى النكاح ، قال : ولأنه عقد معاوضة فجاز أن تتولاه المرأة كالبيع ، ولأنه عقد يستباح به البضع ، فصح أن تباشره المرأة قياسا على شراء الأمة ، ولأنه عقد على منفعة ، فجاز اشتراك الرجال والنساء فيه كالإجارة .

[ ص: 150 ] ودليلنا رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ولا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها وهذا نص .

وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه : أن عائشة كانت إذا هوى فتى من بني أخيها فتاة من بنات أخيها أرسلت سرا ، وقعدت من ورائه ، وتشهدت حتى إذا لم يبق إلا النكاح ، قالت : يا فلان انكح وليتك فلانة ، فإن النساء لا ينكحن . وهذا أمر منتشر في الصحابة لا يعرف فيه مخالف ، ولأن تصرف المرأة في حق نفسها أقوى من تصرفها في حق غيرها ، وقد دللنا على أنه لا ولاية لها في حق نفسها ، فأولى أن لا يكون لها ولاية في حق غيرها ، ولأن كل عقد لم يجز أن تعقده المرأة لنفسها لم يجز أن تعقده لغيرها كعقد الإمامة .

فأما الجواب عن حديث عائشة ، فهو أنه لا يمكن استعماله على ظاهره من أربعة أوجه :

أحدها : أنها لو زوجتها بولاية النسب لكان بالمنكوحة من هو أحق بالولاية منها من إخوة وأعمام : لأن عبد الرحمن قد كان له إخوة وأولادهم أحق بنكاحها من عائشة التي هي أخته وعمة المنكوحة .

والثاني : أنه لو زوجتها بوكالة أبيها عبد الرحمن لما افتاتت عليه في بناته .

والثالث : أنها هي الراوية عن النبي صلى الله عليه وسلم : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل وهي لا تخالف ما روته .

الرابع : أنها كانت إذا خطبت في المناكح ، قالت : " يا فلان انكح وليتك ، فإن النساء لا ينكحن " .

وإذا لم يمكن حمله على ظاهره من هذه الوجوه الأربع وجب حمله على ما يمكن فيحمل على أحد ثلاثة أوجه :

أحدها : أن عبد الرحمن يجوز أن يكون قد وكل عن نفسه من يقوم بتزويج بنته وأمره أن يرجع إلى رأي عائشة في اختيار من يزوجها به ، فأشارت عليه عائشة بتزويجها منذر بن الزبير .

فإن قيل : فلم أنكر وقد وكل .

قيل : لأن منذرا قد كان خطب إليه فكرهه لعجب ذكره فيه ، فأحبت عائشة مع ما عرفته من فضل منذر أنه يصل الرحم ، وتزوج بنت أخيها بابن أختها : لأن منذر بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر .

والثاني : أنه يجوز أن تكون عائشة حين اختارت منذرا سألت السلطان أن يزوجها لأن عبد الرحمن بغيبته لا تزول ولايته وينوب السلطان عنه عندنا وعند أبي حنيفة ، وينوب عنه من بعده من الأولياء وعند مالك ، فكره عبد الرحمن إن لم يستأذن فيه ويطالع به ويكون إضافة [ ص: 151 ] العقد إلى عائشة ، وإن لم تكن العاقدة لمكان اختيارها وسفارتها ، كما يضاف العقد إلى السفير بين الزوجين ، فيقال فلانة الدلالة قد زوجت فلانا بفلانة ، وإن لم تكن قد باشرت العقد وتولته .

والثالث : أنه يجوز أن يكون عبد الرحمن وكل عائشة في أن توكل عنه من يزوج بنته ، فوكلت عائشة عن عبد الرحمن حين استقر رأيها على تزويج منذر من زوجها عنه ، فكان الوكيل المتولي للعقد وكيلا لعبد الرحمن لا لعائشة كما توهم المزني فقال : إذا لم يكن لها أن تزوج فوكيلها بمثابتها لا يجوز له أن يزوج ، وهي لم توكل عن نفسها ، وإنما وكلت عن أخيها ، وإنما يجوز أن تكون المرأة وكيلا في توكيل من يزوج عن الموكل .

وأما الجواب عن الأقيسة الثلاثة في البيع والإجارة وشراء الأمة ، فهو أنها عقود لا تفتقر إلى ولاية ، فجاز أن تتولاها المرأة بخلاف النكاح ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية