الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " فإذا فارق الأربع ثلاثا تزوج مكانهن في عدتهن : لأن الله - تعالى - أحل لمن لا امرأة له أربعا ، وقال بعض الناس : لا ينكح أربعا حتى تنقضي عدة الأربع : لأني لا أجيز أن يجتمع ماؤه في خمس ، أو في أختين ( قلت ) فأنت تزعم لو خلا بهن ولم يصبهن أن عليهن العدة فلم يجتمع فيهن ماؤه فأبيح له النكاح ، وقد فرق الله تعالى بين حكم الرجل والمرأة فجعل إليه الطلاق وعليها العدة ، فجعلته يعتد معها ثم ناقضت في العدة ( قال ) وأين ؟ قلت : إذ جعلت عليه العدة كما جعلتها عليها ، أفيجتنب ما تجتنب المعتدة من الطيب والخروج من المنزل ؟ قال : لا ، قلت ، فلا جعلته في العدة بمعناها ، ولا فرقت بما فرق الله تعالى به بينه وبينها وقد جعلهن الله منه أبعد من الأجنبيات : لأنهن لا يحللن له إلا بعد نكاح زوج وطلاقه أو موته وعدة تكون بعده ، والأجنبيات يحللن له من ساعته " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا كان له أربع زوجات فطلقهن وأراد أن يعقد على أربع سواهن ، أو على أخت واحدة منهن لم يخل طلاقه من أن يكون قبل الدخول أو بعده ، فإن كان قبل الدخول جاز له عقيب طلاقهن ، سواء كان طلاقه ثلاثا أو دونها ، وإن كان قد دخل بهن لم يخل طلاقه من أن يكون بائنا أو رجعيا ، فإن كان رجعيا واحدة أو اثنتين بغير عوض ، لم يكن له العقد على أحد حتى ينقص عددهن : لأنهن من الزوجات ما كن في عددهن لوقوع طلاقه وظهاره عليهن ، وحصول التوارث بينه وبينهن ، فلو انقضت عدة واحدة منهن جاز العقد على أختها أو على خامسة غيرها ، ولو انقضت عدة اثنتين جاز له العقد على اثنتين ، ولو انقضت عدة ثلاث جاز له العقد على ثلاث ، ولو انقضت عدة الأربع جاز له العقد على الأربع ، وإن كان الطلاق بائنا إما أن يكون ثلاثا أو دونها بعوض ، فقد اختلف الفقهاء : هل له أن يتزوج في عددهن بأربع سواهن أو بأخت كل واحدة منهن ؟

فذهب الشافعي إلى جوازه .

وبه قال من الصحابة : زيد بن ثابت .

ومن التابعين : سعيد بن المسيب والزهري .

[ ص: 170 ] ومن الفقهاء : مالك .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا بعد انقضاء عدتهن .

وبه قال من الصحابة علي ، وابن عباس .

ومن التابعين : سفيان الثوري : استدلالا بعموم قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وهذا نص لما به يعقد في أختين ، ولأنها معتدة في حقه من طلاقه ، فلم يحل له العقد على أختها كالرجعية ، واحترز بقوله : " من حقه " من أن يدعي المطلق انقضاء عدتها وينكر ، فيكون القول قول المطلق في استباحة عقده على أختها ، والقول قولها في بقاء عدتها ، وتكون معتدة في حقها لا في حقه ، واحترز بقوله : " من طلاقه " من ردتها ، فإنه يجوز له أن يتزوج بأختها وإن كانت المرتدة في عدتها ومن أن يطأ أمة ثم يبيعها ، فيجوز أن يتزوج بأختها ، وإن كانت الأمة تستبرئ نفسها من وطئه ، قال : ولأن كل جمع منح منه عقد النكاح منعت منه العدة كالجمع بين زوجين : لأن العقد قد حرم عليها نكاح غيره من الأزواج كما حرم عليه نكاح أختها من النساء ، ثم كان تحريم غيره باقيا عليها في العدة ، وجب أن يكون تحريم أختها باقيا عليه في العدة .

ودليلنا في قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم [ النساء : 3 ] . وقد يطيب له نكاح أختها في عدتها ، ولأنه جمع حرم على الزوج بالعقد فوجب أن يرتفع بالطلاق كالمطلقة قبل الدخول ، فإن قيل : فالمطلقة قبل الدخول لما لم يحرم عليها نكاح غيره لم يحرم عليه ، والمطلقة بعد الدخول لما حرم عليها نكاح غيره حرم عليه .

قيل : إنما حرم عليها بعد الدخول نكاح غيره : لأنها معتدة ولم يحرم عليه : لأنه غير معتد ، ولأنها مبتوتة يحل له نكاح أختها بعد العدة ، فحل له نكاح أختها قبل العدة كالمخبرة بانقضاء العدة ، ولأنها فرقة يمنع من وقوع طلاقه فوجب أن يبيح ما حرم من الجمع بعقدة كالوفاة ، ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد ، فلم يحرم عليه نكاح أختها لأجلها كالأجنبية ، ولأن المبتوتة من العدة أغلظ تحريما عليه من الأجنبية : لأن الأجنبية تحل بالعقد في الحال ، وهذه لا تحل له إلا بعقد بعد عدتين وزوج ، فلم يجز وهي أغلظ تحريما من الأجانب أن يحرم بها ما لا يحرم بالأجانب ، ولأن العدة تختص بالمرأة دون الزوج ، لقوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] . فلو منعت من النساء ما منعت من الرجال للزم من العدة كما ألزمت ، ولو لزم من أحكام العدة كما لزمها لزمه سائر أحكامها من تحريم الطيب والزينة كما لزمها ، وفي المنع من إبراء أحكام العدة عليها فيما سوى النكاح منع من إجراء حكمها عليه في تحريم النكاح .

وأما الجواب عن قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ النساء : 23 ] . فهو أن الطلاق مفرق فكيف يصير به جامعا ، والجمع من الاجتماع ، والفرقة ضد الاجتماع .

وأما قياسهم على الرجعية ، فتلك زوجته يقع عليها طلاقه ، وظهاره ، وتستحق بينهما [ ص: 171 ] التوارث ، وهذه قد صارت أجنبية : لأنها لا يلحقها طلاقه ولا ظهاره ، ولا يتوارثان ، فلم يجز أن يجمع بينهما في تحريم الجمع ، كما لم يجمع بينهما في النكاح والعقد .

وأما قياسهم عليها ، فالمعنى فيها أنها معتدة ، والمعتدة محرم عليها نكاح غيره لئلا يختلط ماؤه بماء غيره ، وليس كذلك الرجل : لأنه غير معتد ، وليس في عقده على غيرها اختلاط مائين فافترقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية