الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 214 ] باب ما جاء في الزنا لا يحرم الحلال من الجامع ومن اليمين مع الشاهد

مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " الزنا لا يحرم الحلال ، وقاله ابن عباس ( قال الشافعي ) : لأن الحرام ضد الحلال ، فلا يقاس شيء على ضده ، قال لي قائل يقول : لو قبلت امرأته ابنه بشهوة حرمت على زوجها أبدا ، لم قلت لا يحرم الحرام الحلال ؟ قلت من قبل أن الله تعالى إنما حرم أمهات نسائكم ونحوها بالنكاح ، فلم يجز أن يقاس الحرام بالحلال ، فقال : أجد جماعا وجماعا ، قلت : جماعا حمدت به ، وجماعا رجمت به ، وأحدهما نعمة ، وجعله الله نسبا وصهرا ، وأوجب حقوقا ، وجعلك محرما به لأم امرأتك ولابنتها ، تسافر بهما ، وجعل الزنا نقمة في الدنيا بالحد ، وفي الآخرة بالنار ، إلا أن يعفو ، أفتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة ؟ وقلت له : فلو قال لك قائل وجدت المطلقة ثلاثا تحل بجماع زوج فأحلها بالزنا : لأنه جماع كجماع ، كما حرمت به الحلال : لأنه جماع وجماع ، قال : إذا نخطئ : لأن الله تعالى أحلها بإصابة زوج ، قيل : وكذلك ما حرم الله تعالى في كتابه بنكاح زوج وإصابة زوج ، قال : أفيكون شيء يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام فأقول به ؟ قلت : نعم ينكح أربعا ، فيحرم عليه أن ينكح من النساء خامسة ، أفيحرم عليه إذا زنا بأربع شيء من النساء ؟ قال : لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال ( قال ) وقد ترتد فتحرم على زوجها : قلت : نعم ، وعلى جميع الخلق ، وأقتلها وأجعل مالها فيئا ( قال ) فقد أوجدتك الحرام يحرم الحلال ، قلت : أما في مثل ما اختلفنا فيه من أمر النساء فلا ( قال المزني ) رحمه الله : تركت ذلك لكثرته وأنه ليس بشيء " .

قال الماوردي : قد مضى الكلام في تحريم المصاهرة بعقد النكاح وفي تحريمها بوطء الإماء ، كذلك الوطء بالشبهة يوجب من تحريم المصاهرة مثل ما يوجبه الوطء الحلال في عقد نكاح أو ملك يمين : لأنه لما ساواه في سقوط الحد ولحوق النسب ساواه في تحريم المصاهرة .

فأما وطء الزنا فلا يتعلق به تحريم المصاهرة بحال ، فإذا زنا الرجل بامرأة لم تحرم عليه أمها ولا بنتها ، ولم يحرم على أبيه ولا على ابنه .

وبه قال - من الصحابة - علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس .

[ ص: 215 ] ومن التابعين : سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري .

ومن الفقهاء : مالك ، وربيعة ، وأبو ثور .

وقال أبو حنيفة : الزنا كالحلال في تحريم المصاهرة ، فإذا زنا بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها ، وحرمت على أبيه وابنه ، ولو زنا بامرأة أبيه أو ابنه ، بطل نكاحها ، وكذلك لو قبلها ، أو لمسها ، أو تعمد النظر إلى فرجها بشهوة بطل نكاحها على أبيه وابنه ، وحرم عليه أمها وبنتها . وهو قول الثوري وأحمد ، وإسحاق ، وحكي نحوه عن عمران بن الحصين . وزاد الأوزاعي ، فقال : إذا تلوط الرجل بغلام ، حرمت عليه أمه وبنته ، وحرم على الغلام أمه وبنته .

واستدلوا جميعا بعموم قول الله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء [ النساء : 22 ] . والنكاح حقيقة في الوطء ، فاقتضى عموم الوطء تحريم التي وطئها الأب .

قالوا : وقد روى ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وبنتها ، فاقتضى إذا نظر إلى فرج امرأة في الزنا أن لا ينظر إلى فرج ابنتها في النكاح .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كشف خمار امرأة حرم عليه أمها وبنتها فكان على عمومه في كشف الخمار لنكاح أو زنا ، قالوا : ولأنه وطء مقصود فوجب أن يتعلق به تحريم المصاهرة كالنكاح ، ولأنه تحريم يتعلق بالوطء المباح ، فوجب أن يتعلق بالوطء المحظور قياسا على وطء الشبهة : ولأنه فعل يتعلق به التحريم فوجب أن يستوي حكم محظوره ومباحه كالرضاع .

ودليلنا قوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا [ الفرقان : 54 ] فجمع بين المائين الصهر والنسب ، فلما انتفى عن الزنا حكم النسب انتفى عنه حكم المصاهرة ، وروى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحرام لا يحرم الحلال .

وروي عن الزهري عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل ينكح المرأة حراما أينكح ابنتها ؟ ، أو ينكح البنت حراما أينكح أمها ؟ : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحرم الحرام الحلال ، إنما يحرم ما كان بنكاح حلال . وهذا نص لا يجوز خلافه .

ومن طريق القياس أنه وطء تمحض تحريمه فلم يتعلق به تحريم المصاهرة كوطء الصغيرة التي لا تشتهى ، ولأنه وطء لا يوجب العدة فلم يوجب تحريم المصاهرة كوطء الصغيرة والميتة ، ولأنه تحريم نكاح يتعلق بالوطء الصحيح فوجب أن ينتفي عن الزنا الصريح قياسا على تحريم العدة ، ولأنه وطء لا يتعلق به التحريم المؤقت ، فوجب أن يتعلق به التحريم المؤبد كاللواط ، ولأن ما أوجب تحريم المصاهرة افترق حكم حلاله وحرامه كالعقد ، ولأن المواصلة التي ثبت في الوطء بالنكاح تنتفي عن الوطء بالزنا قياسا على [ ص: 216 ] مواصلة النسب : ولأنه لما انتفى عن وطء الزنا ما يتعلق بوطء النكاح من الإحصان ، والإحلال ، والعدة ، والنسب انتفى عنه ما يتعلق به من تحريم المصاهرة ، ولأنه لو ثبت تحريم المصاهرة بما حرم من الوطء ، والقبلة ، والملامسة بشهوة لما شاءت المرأة أن تفارق زوجها إذا كرهته إذا قدرت على فراقه بتقبيل ابنه فيصير الفراق بيدها ، وقد جعله الله بيد الزوج دونها ، ولا يبطل هذا بالردة : لأن ما يلزمها من القتل بالردة أعظم مما تستفيده من الفرقة ، فلم تخلص لها الفرقة بالردة ، وخلصت لها بالقبلة .

فأما الجواب عن قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم [ النساء : 22 ] فهو أن النكاح حقيقة في العقد ، فجاز في الوطء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [ الأحزاب : 49 ] وقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم [ النور : 32 ] يريد به العقد دون الوطء ، ثم لو تناول الوطء مجازا عندنا وحقيقة عندهم ، فجاز أن يكون محمولا على حلاله مخصوصا في حرامه بدليل ما ذكرنا .

وأما احتجاجهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وبنتها فعنه جوابان :

أحدهما : أنه مروي عن وهب بن منبه أنه مكتوب في التوراة فلم يلزمنا لنسخها بالقرآن .

والثاني : أن ما تضمنه من الوعيد متوجه إليه في الحرام دون الحلال : لأن أحدهما لا محالة حرام .

وأما احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم من كشف خمار امرأة حرمت عليه أمها وبنتها ، فلا دليل في ظاهره فعمل بموجبه : لأن كشف الخمار لا يحرم عليه أمها ولا بنتها ، فإن عدلوا به عن ظاهره إلى الوطء ، عدلنا به إلى حلال الوطء أو شبهته .

وأما قياسهم بأنه وطء مقصود كالنكاح ، فليس لقولهم " وطء مقصود " تأثير في الحكم : لأن وطء العجوز الشوهاء غير مقصود ، وهو في تحريم المصاهرة كوطء الشابة الحسناء ، وإذا سقط اعتباره لعدم تأثيره انتقض بوطء الميتة ، ثم المعنى في النكاح أنه أوجب لحوق النسب ، فلذلك أوجب تحريم المصاهرة ، وليس كذلك الزنا ، وكذلك الجواب عن قياسهم على وطء الشبهة .

وأما قياسهم على الرضاع بعلة أنه فعل يتعلق به التحريم فمنتقض بالعقد يفترق حكم محظوره الفاسد ومباحه الصحيح .

وإن قيل : فالعقد قول ، وليس بفعل .

قيل : القول فعل ، ثم المعنى في الرضاع أنه لما تعلق لمحظوره شابه أحكام المباح لم يتعلق به تحريم المصاهرة .

[ ص: 217 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية