الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ثم يمسح رأسه ثلاثا ، وأحب أن يتحرى جميع رأسه وصدغيه يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه . قال الماوردي : وهذا كما قال مسح الرأس واجب بالكتاب والسنة والإجماع واختلفوا في قدر ما يجب مسحه منه على ثلاث مذاهب شتى .

فمذهب الشافعي أن الواجب منه ما ينطلق اسم المسح عليه ثلاث شعرات فصاعدا .

وقال مالك : الواجب مسح جميع الرأس ، فإن ترك أكثر من ثلاث شعرات عامدا لم يجزه ، وإن ترك أقل من الثلاث ناسيا أجزأه .

وذهب المزني إلى مسح جميعه من غير تفصيل .

وعن أبي حنيفة روايتان :

أحدهما : أن الواجب مسح الناصية وهو ما بين النزعتين .

والثانية : وهي المشهورة عنه وبها قال أبو يوسف : إن الواجب مسح ربعه بثلاثة أصابع ، فإن مسح الربع بأقل من ثلاث أصابع أو مسح بثلاث أصابع أقل من الربع لم يجزه ، فحد الممسوح والممسوح به . [ ص: 115 ] فأما مالك فاستدل بقوله تعالى : وامسحوا برءوسكم [ المائدة : 6 ] فاقتضى الظاهر أن يمسح جميع ما انطلق عليه اسم الرأس ، وبحديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى ما قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، وبحديث المقدام بن معد يكرب قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فلما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه .

ولأنه أحد الأعضاء الظاهرة فوجب أن يكون استيعابه بالتطهير واجبا كالوجه ؛ ولأن كل موضع كان محلا لفرض المسح تعلق به فرض المسح أصله البعض المتفق عليه .

ودليلنا قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم [ المائدة : 6 ] ومنه دليلان :

أحدهما : أن العرب لا تدخل في الكلام حرفا زائدا إلا بفائدة ، والباء الزائدة قد تدخل في كلامهم لأحد أمرين : إما للإلصاق في الموضع الذي لا يصح الكلام بحذفها ، ولا يتعدى الفعل إلى مفعوله إلا بها كقولهم مررت بزيد ، وكقوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ الحج : 29 ] . لما لم يصح أن يقولوا مررت زيدا ، وليطوفوا البيت كان دخول الباء للإلصاق ، ولتعدي الفعل إلى مفعوله . وإما للتبعيض في الموضع الذي يصح الكلام بحذفها ، وبتعدي الفعل إلى مفعوله بعدها ليكون لزيادتها فائدة .

فلما حسن حذفها من قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم [ المائدة : 6 ] لأنه لو قال : " وامسحوا رءوسكم " صلح ، دل على دخولها للتبعيض .

والثاني : أن من عادة العرب في الإيجاز والاختصار إذا أرادوا ذكر كلمة اقتصروا على أول حرف منها اكتفاء به ، عن جميع الكلمة كما قيل في قوله تعالى : كهيعص أن الكاف من كافي ، والهاء من هادي ، وكما قال الشاعر :

قلت لها قفي فقالت قاف

. أي وقفت ، وكما قال الآخر :

نادوهم أن ألجموا ألا تا     فقالوا جميعا كلهم ألا فا

، ومعناه : نادوهم أن ألجموا ألا تركبون ؟ قالوا جميعا ألا فاركبوا . [ ص: 116 ] وإذا كان هذا من كلامهم كانت الباء التي في قوله : وامسحوا برءوسكم [ المائدة : 6 ] مرادا بها بعض رءوسكم لأنها أول حرف من بعض .

والدليل من طريق السنة رواية ابن سيرين ، عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته أو قال مقدم رأسه وروى أبو معقل ، عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة .

ولأن كل ما لو تركه ناسيا في الطهارة فلم يمنع من صحة الطهارة لم يكن من فروض الطهارة كمسح الأذنين .

فأما الآية فقد ذكرنا وجهي دليلنا منها ، فأما حديث عبد الله بن زيد والمقدام بن معد يكرب فمحمول على الاستحباب بدليل ما رويناه من حديث المغيرة وأنس ، وأما قياسه فمنتقض بمسح الخفين ؛ لأن كل موضع منه محل لفرض المسح وليس مسح جميعه واجبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية