الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما المجوس فقد اختلف الناس فيهم هل هم أهل الكتاب أم لا ؟ وعلق الشافعي القول فيهم ، وقال في موضع : هم أهل كتاب ، وقال في موضع : ليسوا أهل كتاب . فاختلف أصحابنا لاختلاف قول الشافعي : فكان بعضهم يخرجه على اختلاف قولين :

أحدهما : أنه لا كتاب لهم : لقوله تعالى : إنما أنزل الكتاب على طائفتين [ الأنعام : 156 ] يعني اليهود والنصارى ، فدل على أنه لا كتاب لغيرهما : ولأن عمر لما أشكل عليه أمرهم سأل الصحابة عنهم ، فروى له عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب فلما أمر بإجرائهم مجرى أهل الكتاب دل على أنه ليس لهم كتاب ، فعلى هذا القول يجوز قبول جزيتهم لهذا الحديث ، وأن عمر أخذ الجزية منهم بالعراق . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر . فأما أكل ذبائحم ونكاح نسائهم فلا يجوز : لعدم الكتاب فيهم .

والقول الثاني فيهم : أنهم أهل كتاب : لأن الله تعالى يقول : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] وقد ثبت أخذ الجزية منهم ، فدل على أنهم من أهل الكتاب ، وروي عن علي بن أبي طالب ، أنه قال : - وكانوا أهل كتاب - وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته ، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد ، فامتنع منهم ، فدعا آل مملكته ، فقال : " تعلمون دينا خيرا من دين آدم ، فقد كان آدم ينكح بنيه من بناته ، فأنا على دين آدم ما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وخالفوا الدين ، وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم ، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم ، فرفع من بين أظهرهم ، وذهب العلم الذي في [ ص: 225 ] صدورهم ، وهم أهل كتاب ، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما منهم الجزية " .

فنكح الملك أخته ، وأمسكوا عن الإنكار عليه ، إما متابعة لرأيه ، وإما خوفا من سطوته ، فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ، فعلى هذا القول يجوز إقرارهم بالجزية : وهل يجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : يجوز لإجراء حكم الكتاب عليهم .

والوجه الثاني : لا يجوز : لأن طريق كتابهم الاجتهاد ، دون النص ، فقصر حكمه عن حكم النص .

وقال آخرون من أصحابنا : ليس ما اختلف نص الشافعي عليه اختلاف قوليه فيه ، إنما هو على اختلاف حالين ، فالموضع الذي قال : إنهم أهل كتاب ، يعني في قبول الجزية وحدها : حقنا لدمائهم أن لا تستباح بالشك ، والموضع الذي قال : إنهم غير أهل الكتاب ، يعني في أن لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم . وهذا قول سائر الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء .

وخالف أبو ثور فجوز أكل ذبائحهم ، ونكاح نسائهم .

وروى إبراهيم الحربي تحريم ذلك عن سبعة عشر صحابيا ، وقال : ما كنا نعرف خلافا فيه حتى جاءنا خلافا من الكرخ ، يعني خلاف أبي ثور : لأنه كان يسكن كرخ بغداد .

واستدل أبو ثور على أكل ذبائحهم ، وجواز مناكحتهم بحديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب قال : وقد تزوج حذيفة بن اليمان مجوسية بالعراق ، فاستنزله عنها عمر فطلقها ، فلو لم يجز لأنكر عليه ، ولفرق بينهما من غير طلاق : ولأن كل صنف جاز قبول جزيتهم جاز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم كاليهود والنصارى ، قالوا : ولأن كتاب اليهود والنصارى نسخ ، وكتاب المجوس رفع ، ولا فرق بين حكم المنسوخ والمرفوع : فلما لم يمنع نسخ كتابي اليهود والنصارى من أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لم يمنع رفع كتاب المجوس من ذلك . وهذا خطأ : لأن إبراهيم الحربي رواه عن سبعة عشر صحابيا لا يعرف لهم مخالفا ، فصار إجماعا : لأن من لم يتمسك بكتاب لم تحل ذبائحهم ونسائهم كعبدة الأوثان ، وليس للمجوس كتاب يتمسكون به كما يتمسك اليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل ، فوجب أن يكون حكمهم مخالفا لحكمهم ، ولأن نكاح المشركات محظور بعموم النص ، فلم يجز أن يستباح باحتمال : ولأن عمر مع الصحابة توافقوا في قبول جزيتهم للشك فيهم ، فكيف يجوز مع هذا الشك أن يستبيح أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .

وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري يسأله كيف أخذ الناس الجزية من المجوس ، وأقروهم على عبادة النيران ، وهم كعبدة الأوثان فكتب إليه الحسن ، إنما أخذوا منهم الجزية : لأن العلاء بن الحضرمي - وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين - أخذها [ ص: 226 ] منهم ، وأقرهم ، فدل على أنهم أفردوا من أهل الكتاب بأخذ الجزية وحدها ، فلذلك خصهما عمر بن عبد العزيز بالسؤال والإنكار ، فأما استدلاله بقوله : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " فيعني به في أخذ الجزية لأمرين :

أحدهما : أنه روى ذلك عند الشك في قبول جزيتهم .

والثاني : أن الصحابة أثبتوا هذا الحديث في قبول جزيتهم ، ولم يجوزوا به أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .

وأما تزويج حذيفة بمجوسية ، فالمروي أنها كانت يهودية ، ولو كانت مجوسية ، فقد استنزله عنها عمر فنزل ، ولو كانت تحل له لما استنزله عنها عمر ، ولما نزل عنها حذيفة ، وأما قياسه على اليهود والنصارى ، فالمعنى فيهم تمسكهم بكتابهم ، فثبت حرمته فيهم ، وليس كذلك المجوس .

وأما قوله : إن حكم المرفوع والمنسوخ سواء ، فليس بصحيح : لأن المنسوخ باقي التلاوة فنفيت حرمته فيهم ، وليس كذلك المجوسي ، وأما المرفوع مرفوع التلاوة فارتفعت حرمته ، هذا الكلام فيمن له شبهة بكتاب من الصابئين والسامرة والمجوس .

فأما من تمسك بصحف شيث ، أو زبور داود ، أو شيء من الصحف الأولى ، أو من زبر الأولين ، فلا يجري عليه حكم أهل الكتاب ، ويكونوا كمن لا كتاب له ، فلا تقبل لهم جزية ، ولا تؤكل لهم ذبيحة ، ولا تنكح فيهم امرأة لأمرين :

أحدهما : أن هذه الكتب مواعظ ووصايا ، وليس فيهما أحكام وفروض ، فخالفت التوراة والإنجيل .

والثاني : ليست كلام الله ، وإنما هي وحي منه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ، أو من تبعني أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ، فكان ذلك وحيا من الله ، ولم يكن من كلامه ، فخرج عن حكم القرآن الذي تكلم به ، كذلك هذه الكتب ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية