الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ، فليست الذمة المؤبدة إلا لأهل الكتاب ، فإن لم يترافعوا إلينا في أحكامهم تركوا ، وإن ترافعوا فيها إلينا ، فعلى ضربين :

[ ص: 307 ] أحدهما : أن يكونوا من أهل دين واحد ، ففي وجوب الحكم عليهم قولان :

أحدهما - وهو قوله في القديم - : أنه لا يجب ، والحاكم مخير في الحكم بينهم ، وهو إذا حكم عليهم مخيرون في التزام حكمه ، اعتبارا بأهل العهد : لعموم قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم .

والقول الثاني - وهو قوله في الجديد ، واختاره المزني - : أن الحكم بينهم واجب ، فيلزم الحاكم إذا ترافعوا إليه أن يحكم بينهم ، وعليهم إذا حكم أن يلتزموا حكمه ، وإذا استعدى أحدهم على الآخر وجب أن يعديه الحاكم ، وأن يحضر المستعدى عليه ، فإن امتنع من الحضور أجبره وعزره ، وإنما كان كذلك بقول الله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ المائدة : 49 ] . وهذا أمر ، ولقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] .

قال أصحابنا : والصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ، فلو لم يلزمهم حكمه لامتنعوا من إقامة الحد عليهم ، ولأننا نجريهم بالدفع عنهم منا ومن غيرنا مجرى المسلمين ، فوجب أن ندفع عنهم بالحكم بينهم في استيفاء الحقوق لهم كما نحكم بين المسلمين ، وبهذا نفرق بينهم وبين المعادين ، لا يلزمنا أن ندفع عنهم غيرنا ، فلم يلزمنا أن نحكم بينهم ، ولا أن ندفع بعضهم عن بعض .

فأما أبو حنيفة فلم يعمل بواحد من القولين على إطلاقه وقال : لا يحكم بينهم إلا أن يجتمعوا على الرضا بحكم الإمام ، فحينئذ يلزم الحاكم أن يحكم بين المترافعين إليه ، ويلزمهم أن يلتزموا حكمه .

والضرب الثاني : أن يكون الحكم بين ذميين من دينين كيهودي ونصراني تحاكما إلينا ، فقد اختلف أصحابنا فيهم : فكان أبو إسحاق المروزي يخرج وجوب الحكم بينهما على قولين ، كما لو كانا على دين واحد : لأن الكفر كله ملة واحدة .

وقال غيره من أصحابنا : أن يحكم بينهما قولا واحدا .

والفرق بين أن يكون من دين واحد أو دينين : أنهما إذا كانا من دين واحد فلم يحكم ، كان لهم حاكم واحد لا يختلفون فيه ، فأمكن وصولهم إلى الحق منه ، وإذا كانا على دينين ، اختلفا في الحكم إن لم يحكم بينهما حاكمنا ، فدعا النصراني إلى حاكم النصارى ، ودعا اليهودي إلى حاكم اليهود ، فتعذر وصول الحق إلا بحاكمنا ، فلذلك لزمه الحكم بينهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية