الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولوليها منعها من نكاح المجنون ، كما يمنعها من غير كفء ، فإن قيل : فهل من حكم بينهما فيه الخيار أو الفرقة ؟ قيل : نعم المولى يمتنع من الجماع بيمين لو كانت على غير مأثم كانت طاعة الله أن لا يحنث ، فأرخص له في الحنث بكفارة اليمين ، فإن لم يفعل وجب عليه الطلاق والعلم محيط بأن الضرر بمباشرة الأجذم والأبرص والمجنون والمخبول أكثر منها بترك مباشرة المولى ما لم يحنث " .

قال الماوردي : أما إذا أوصى الولي أن يزوجها بمن فيه أحد هذه العيوب فامتنعت ، فالقول قولها ، وليس للولي إجبارها عليه ، وإن كان أبا : لما فيه من تفويت حقها من الاستمتاع ، ولأنه لو زوجها به لكان لها الفسخ ، فكان أولى أن يكون لها الامتناع قبل العقد ، فأما إذا رضيت بمن فيه أحد هذه العيوب ، وامتنع الولي فالعيوب على ثلاثة أقسام :

أحدهما : ما للولي أن يمنعها من نكاح من هي فيه ، وذلك الجنون والخبل لما فيه من عار على الأولياء فكان لهم دفعه عنهم بالامتناع .

والقسم الثاني : ما ليس للولي منعها من نكاح من هي فيه ، وذلك العنت ، [ ص: 349 ] والجب ، والخصاء : لأنه لاعار فيه على الأولياء ، وإنما يختص بعدم الاستمتاع الذي هو حق لها دون الأولياء .

والقسم الثالث : ما اختلف فيه أصحابنا فيه ، وهو الجذام والبرص ، وفيه وجهان :

أحدهما : ليس للولي منعها من مجذوم ولا أبرص : لاختصاصها بالاستمتاع . وهذا قول أبي إسحاق المروزي .

والوجه الثاني : له منعها منهما لنفور النفوس منهما ، ولتعدي ذلك إلى نسلها فأما إن حدثت هذه العيوب في الزوج بعد العقد ، فالخيار لها دون الأولياء ، فإن رضيت وكره الأولياء كان رضاها أولى ، ولا اعتراض للأولياء : لأن حقهم مختص بطلب الكفاءة في ابتداء العقد دون استدامته .

قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " ولو تزوجها على أنها مسلمة فإذا هي كتابية ، كان له فسخ النكاح بلا نصف مهر ، ولو تزوجها على أنها كتابية فإذا هي مسلمة ، لم يكن له فسخ النكاح : لأنها خير من كتابية ( قال المزني ) رحمه الله : هذا يدل على أن من اشترى أمة على أنها نصرانية فإذا بها مسلمة فليس للمشتري أن يردها ، وإذا اشتراها على أنها مسلمة فوجدها نصرانية فله أن يردها " .

قال الماوردي : قد مضى الكلام في أن خلاف الصفة المشروطة في عقد النكاح ، هل تجري مجرى خلاف العين أم لا ؟ على قولين ، فإذا تزوجها على أنها مسلمة فوجدها نصرانية ، ففي النكاح قولان :

أحدهما : باطل .

والثاني : جائز . نص عليه هاهنا .

وهل له الخيار في فسخ النكاح أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : لا خيار له .

والثاني : له الخيار . نص عليه هاهنا .

وهكذا لو تزوجها على أنها نصرانية فكانت مسلمة ، كان على قولين :

أحدهما : باطل .

والثاني : جائز ، ولا خيار له قولا واحدا : لأن المسلمة أعلى حالا من النصرانية .

فأما المزني ، فإنه استدل بذلك على أن من اشترى أمة على أنها مسلمة فكانت نصرانية أن له الخيار ، ولو اشتراها على أنها نصرانية فكانت مسلمة فليس له خيار كالنكاح ، فرد أصحابنا ذلك عليه ، وقالوا له : في البيع الخيار في الموضعين بخلاف النكاح : لأن المقصود بالبيع وفور الثمن ، والثمن يتوفر بكثرة الطالب ، وطالب النصرانية أكثر من [ ص: 350 ] طالب المسلمة : لأن النصرانية يشتريها المسلمون والنصارى ، والمسلمة لا يشتريها إلا المسلمون دون النصارى ، فإذا اشتراها على أنها نصرانية فكانت مسلمة كان له الخيار : لأنها أقل طلبا فصارت أقل ثمنا ، ولو اشتراها على أنها مسلمة فكانت نصرانية فله الخيار لنقصها بالدين ، وأن المسلمة أحسن منها عشرة ، وأكثر نظافة وطهارة ، وليس كذلك النكاح : لأن المقصود منه العشرة وحسن الصحبة وكمال المتعة ، وهذا كله في المسلمة أوجد منه في النصرانية ، فافترق حكم البيع والنكاح بما ذكرناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية