الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 390 ] بسم الله الرحمن الرحيم : يا رب عونك :

كتاب الصداق

قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ذكر الله الصداق والأجر في كتابه وهو المهر ، قال الله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [ البقرة : 236 ] فدل أن عقدة النكاح بالكلام ، وأن ترك الصداق لا يفسدها " .

الدليل على وجوب الصداق

قال الماوردي : والأصل في وجوب الصداق في النكاح : الكتاب والسنة والإجماع .

فأما الكتاب : فقوله تعالى : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [ النساء : 4 ] وفيمن توجه إليه هذا الخطاب قولان :

أحدهما : أنه متوجه إلى الأزواج . وهو قول الأكثرين .

والثاني : أنه متوجه إلى الأولياء : لأنهم كانوا يتملكون في الجاهلية صداق المرأة ، فأمرهم الله تعالى بدفع صداقهن إليهن . وهذا قول أبي صالح وفي " نحلة " : ثلاث تأويلات :

أحدها : يعني تدينا من قولهم : فلان ينتحل كذا ، أي يتدين به .

والثاني : بطيب نفس كما تطيب النفس بالنحل الموهوب .

والثالث : أنه نحل من الله تعالى لهن بعد أن كان ملكا لأوليائهن ، والنحل : الهبة ، وقال الله تعالى فيما حكاه عن شعيب في تزويج موسى بابنته ، قال : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج [ القصص : 27 ] ولم يقل على أن تأجرها ، فجعل الصداق ملكا لنفسه دونها ، ثم قال : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا يعني الزوجات إن طبن نفسا عن شيء من صدقاتهن : لأزواجهن في قول من جعله خطابا للأزواج ، ولأوليائهن في قول من جعله خطابا للأولياء ، فكلوه هنيئا مريئا يعني لذيذا نافعا ، وقال تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا [ النساء : 20 ] أي قد ملكن الصداق ، وإن استبدلتم بهن غيرهن فلا تأخذوا منه شيئا وإن كان الصداق قنطارا ، وفي القنطار سبعة أقاويل :

[ ص: 391 ] أحدها : أنه ألف ومائتا أوقية . وهو قول معاذ بن جبل ، وأبي هريرة .

والثاني : أنه ألف ومائتا دينار . وهو قول الحسن ، والضحاك .

والثالث : أنه اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار . وهو قول ابن عباس .

والرابع : أنه ثمانون ألف درهم ، أو مائة رطل . وهو قول سعيد بن المسيب وقتادة .

والخامس : أنه سبعون ألفا . وهو قول ابن عمر ومجاهد .

والسادس : أنه ملء مسك ثور ذهبا . وهو قول أبى نضرة .

والسابع : أنه المال الكثير . وهو قول الربيع .

فذكر القنطار على طريق المبالغة : لأنه لا يسترجع إذا كان صداقا ، وإن كان كثيرا إذا استبدل بها ، فكان أولى أن لا يسترجعه إذا لم يستبدل .

ثم قال تعالى وعيدا على تحريم الاسترجاع : أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا [ النساء : 20 ] ثم قال تعليلا لتحريم الاسترجاع : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا .

وفي الإفضاء هاهنا تأويلان :

أحدهما : أنه الجماع . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وبه قال الشافعي .

والثاني : أنه الخلوة ، وهو قول أبي حنيفة .

وفي قوله : وأخذن منكم ميثاقا غليظا ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنه عقد النكاح الذي استحل به الفرج . وهو قول مجاهد .

والثاني : أنه إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . وهو قول الحسن ، وابن سيرين ، والضحاك ، وقتادة .

والثالث : ما رواه موسى بن عبيدة ، عن صدقة بن يسار ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس ، إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فلكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يعصينكم في معروف ، فإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف .

وقال تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة [ النساء : 24 ] يريد الصداق ، فعبر عنه بالأجر : لأنه في مقابلة منفعة .

وفي قوله " فريضة " تأويلان :

[ ص: 392 ] أحدهما : يعني فريضة من الله واجبة . وهو قول الأكثرين .

والثاني : أي مقدرة معلومة . وهو قول الحسن ومجاهد .

وأما السنة : فما روى عبد الرحمن بن البيلماني ، عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أدوا العلائق ، قالوا : يا رسول الله ، وما العلائق : قال : ما تراضى به الأهلون .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من استحل بدرهمين فقد استحل .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تزوج أحدا من نسائه ولا زوج واحدة من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونشا .

قالت عائشة رضي الله عنها أتدرون ما النش ؟ النش : نصف أوقية عشرون درهما ، تعني خمسمائة درهم : لأن الأوقية أربعون درهما .

وروى المنذر بن فرقد قال ، : كنا عند سفيان الثوري ، فقال كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة أوقية وشنا ، فقال له القاسم بن معين : صحفت يا أبا عبد الله : إنما هو نش ، أما سمعت قول الشاعر .


تلك التي جاورها المخش من نسوة صداقهن النش

فأما أم حبيبة ، فقد كانت أكثر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقا : لأن النجاشي أصدقها عنه أربعة ألف درهم من عنده ، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أول ما يسأل عنه العبد من ذنوبه صداق زوجته .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : من ظلم زوجته صداقها لقي الله وهو زان . قاله على طريقة التغليظ والزجر .

واجتمعت الأمم على أن صداق الزوجات مستحق .

التالي السابق


الخدمات العلمية