الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ القول في أقل الصداق ]

فأما أقل الصداق فقد اختلف فيه الفقهاء ، فمذهب الشافعي رحمه الله : أنه غير مقدر ، أن كل ما جاز أن يكون ثمنا أو مبيعا أو أجرة أو مستأجرا ، جاز أن يكون صداقا ، قل أو كثر .

وبه قال من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، حتى قال عمر في ثلاث قبضات زبيب مهر .

وبه قال من التابعين : الحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، حتى حكي أن سعيدا زوج بنته على صداق درهمين .

وبه قال من الفقهاء : ربيعة ، والأوزاعي ، والثوري وأحمد ، وإسحاق .

وقال مالك : أقل الصداق ما تقطع فيه اليد : ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، وقال ابن شبرمة : أقله خمسة دراهم ، أو نصف دينار .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقله دينار أو عشرة دراهم ، فإن عقده بأقل من عشرة ، صحت التسمية ، وكملت عشرة ، ومنعت من مهر المثل ، إلا زفر وحده فإنه أبطل التسمية وأوجب مهر المثل .

وقال إبراهيم النخعي : أقله أربعون درهما .

وقال سعيد بن جبير : أقله خمسون درهما .

واستدل أبو حنيفة بقول الله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [ النساء : 24 ] ولا يطلق اسم الأموال على ما قل من الدانق والقيراط ، فلم يصح أن يكون ذلك ابتغاء بمال .

وروى مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن [ ص: 398 ] عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ، ولا يزوج إلا الأولياء ، ولا مهر أقل من عشرة دراهم . وهذا نص .

ولأنه مال يستباح به عضو ، فوجب أن يكون مقدرا كالنصاب في قطع السرقة .

ولأنه أحد بدلي النكاح ، فوجب أن يكون مقدرا كالبضع ، ولأن ما كان من حقوق العقد يقدر أقله كالشهود .

ودليلنا قول الله تعالى : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم [ البقرة : 237 ] .

ومن الآية دليلان :

أحدهما : عام ، وهو قوله : فنصف ما فرضتم فكان على عمومه من قليل أو كثير .

والثاني : خاص ، وهو أنه إذا فرض لها خمسة دراهم ، وطلقها قبل الدخول اقتضى أن يجب لها درهمان ونصف ، وعند أبي حنيفة يجب لها الخمسة كلها ، وهذا خلاف النص .

وروى عبد الرحمن بن البيلماني ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أدوا العلائق ، قالوا : يا رسول الله ، وما العلائق ؟ قال : ما تراضى به الأهلون فكان على عمومه فيما تراضوا به من قليل وكثير .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من استحل بدرهمين فقد استحل يعني فقد استحل بالدرهمين .

روى أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا جناح على امرئ أن يصدق امرأة ، قليلا أو كثيرا ، إذا أشهد وتراضوا .

وروى عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه : أن امرأة تزوجت على نعلين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك ومالك بهاتين النعلين ؟ فقالت : نعم فأجازه .

وروى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل خطب منه المرأة التي بذلت نفسها له : التمس ولو خاتما من حديد .

والخاتم من الحديد أقل الجواهر قيمة ، فدل على جواز القليل من المهر .

فإن قيل : فقد يجوز أن يكون من حديد صيني يساوي عشرة دراهم ، ويكون ثمن النعلين عشرة دراهم .

[ ص: 399 ] قيل : لو كان ذلك مخالفا للعرف المعهود ، لنقل ، وليس في العرف أن يساوي نعلان في المدينة ، وخاتم من حديد عشرة دراهم .

على أن قوله : التمس ولو خاتما من حديد ، على طريق التقليل ، ولو أراد ما ذكروه من الصفة المتقدرة لكان عدوله إلى العشرة المقدرة أسهل وأفهم ، فبطل هذا التأويل .

وروى يونس بن بكير ، عن صالح بن مسلم بن رومان عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما كانت به حلالا .

وروى قتادة ، عن عبد الله بن المؤمل ، عن جابر قال : إنا كنا لننكح المرأة على الحفنة أو الحفنتين من دقيق .

وروى قتادة ، عن أنس بن مالك قال : تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة من الأنصار على وزن نواة من ذهب قومت ثلاثة دراهم .

وهذه كلها نصوص لا يجوز خلافها .

ويدل عليه من طريق القياس : هو أن كل ما صلح أن يكون ثمنا ، صلح أن يكون مهرا كالعشرة ، ولأنه عقد ثبت فيه العشرة عوضا ، فصح أن يثبت دونها عوضا كالبيع ، ولأنه عوض على إحدى منفعتيها فلم يتقدر قياسا على أجرة منافعها ، ولأن ما يقابل البضع من البدل لا يتقدر في الشرع كالخلع ، ولأن كل عوض لا يتقدر أكثره لا يتقدر أقله قياسا على جميع الأعواض ، ولا يدخل عليه الجزية : لأنها ليست عوضا .

فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

أحدها : أن ظاهرها متروك بالإجماع : لأنه لو نكحها بغير مهر حلت .

والثاني : أن ما دون العشرة مال ، ألا تراه لو قال : له علي مال ثم بين درهما أو دانقا قبل منه ، فدلت الآية على جوازه في المهر .

وأما الجواب عن حديث جابر فمن وجهين :

أحدهما : أنه ضعيف : لأنه رواية مبشر بن عبيد وهو ضعيف ، عن الحجاج بن أرطأة وهو مدلس .

وقد روينا عن جابر من طريق ثابتة قولا مسندا وفعلا منتشرا ، ما ينافيه ، فدل على بطلانه .

والجواب الثاني : أنه يستعمل إن صح في امرأة بعينها ، كان مهر مثلها عشرة ، فحكم لها فيه بالعشرة .

[ ص: 400 ] وأما قياسهم على القطع في السرقة فقولهم : مال يستباح به البضع فاسد من أربعة أوجه .

أحدها : أنه لا يستباح القطع في السرقة بالمال ، وإنما يستباح بإخراجه .

والثاني : أنه لو استبيح بالمال لما لزم رد المال ، ورد المال لازم .

والثالث : أنه ليس يستباح به العضو ، وإنما يقطع به .

والرابع : أن عقد النكاح لا يختص باستباحة عضو ، بل يستباح به جميع البدن ، فبطل التعليل بما قالوه .

ثم المعنى في قطع السرقة أنه عن فعل كالجنايات ، فجاز أن يكون مقدرا كسائر الجنايات ، والمهر عوض في عقد مراضاة فلم يتقدر كسائر المعاوضات .

وأما قياسهم على ما في مقابلته من البضع المقدر ففاسد بالبدل في الخلع ، هو غير مقدر ، وإن كان في مقابلة بضع مقدر ، ثم المعنى في البضع أنه صار مقدرا : لأنه لا يتجزأ ، فصار مقدرا لا يزيد ولا ينقص ، والمهر يتجزأ ، فصح أن يزيد وصح أن ينقص .

وأما قياسهم على الشهادة : فالمعنى فيها أنها من شروط العقد فتقدرت كما تقدرت بالزوج والولي ، وليس كالمهر الذي هو من أعواض المراضاة ، ولو تقدر لخرج أن يكون عن مراضاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية