فصل : [ القول في أقل الصداق ]  
فأما  
أقل الصداق  فقد اختلف فيه الفقهاء ، فمذهب  
الشافعي   رحمه الله : أنه غير مقدر ، أن كل ما جاز أن يكون ثمنا أو مبيعا أو أجرة أو مستأجرا ، جاز أن يكون صداقا ، قل أو كثر .  
وبه قال من الصحابة :  
عمر بن الخطاب   ،  
وعبد الله بن عباس   ، حتى  قال  
عمر   في ثلاث قبضات زبيب مهر     .  
وبه قال من التابعين :  
الحسن البصري   ،  
وسعيد بن المسيب   ، حتى  حكي أن  
سعيدا   زوج بنته على صداق درهمين     .  
وبه قال من الفقهاء :  
ربيعة   ،  
والأوزاعي   ،  
والثوري   وأحمد   ،  
وإسحاق      .  
وقال  
مالك      : أقل الصداق ما تقطع فيه اليد : ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، وقال  
ابن شبرمة      : أقله خمسة دراهم ، أو نصف دينار .  
وقال  
أبو حنيفة   وأصحابه : أقله دينار أو عشرة دراهم ، فإن عقده بأقل من عشرة ، صحت التسمية ، وكملت عشرة ، ومنعت من مهر المثل ، إلا  
زفر   وحده فإنه أبطل التسمية وأوجب مهر المثل .  
وقال  
إبراهيم النخعي      : أقله أربعون درهما .  
وقال  
سعيد بن جبير      : أقله خمسون درهما .  
واستدل  
أبو حنيفة   بقول الله تعالى :  
وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين     [ النساء : 24 ] ولا يطلق اسم الأموال على ما قل من الدانق والقيراط ، فلم يصح أن يكون ذلك ابتغاء بمال .  
وروى  
مبشر بن عبيد   عن  
الحجاج بن أرطأة   ، عن  
عطاء   ، عن  
عمرو بن دينار   ، عن  
جابر بن      [ ص: 398 ] عبد الله   قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  
لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ، ولا يزوج إلا الأولياء ، ولا مهر أقل من عشرة دراهم     . وهذا نص .  
ولأنه مال يستباح به عضو ، فوجب أن يكون مقدرا كالنصاب في قطع السرقة .  
ولأنه أحد بدلي النكاح ، فوجب أن يكون مقدرا كالبضع ، ولأن ما كان من حقوق العقد يقدر أقله كالشهود .  
ودليلنا قول الله تعالى :  
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم     [ البقرة : 237 ] .  
ومن الآية دليلان :  
أحدهما : عام ، وهو قوله : فنصف ما فرضتم فكان على عمومه من قليل أو كثير .  
والثاني : خاص ، وهو أنه إذا فرض لها خمسة دراهم ، وطلقها قبل الدخول اقتضى أن يجب لها درهمان ونصف ، وعند  
أبي حنيفة   يجب لها الخمسة كلها ، وهذا خلاف النص .  
وروى  
عبد الرحمن بن البيلماني   ، عن  
عبد الله بن عمر   أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  
أدوا العلائق ، قالوا : يا رسول الله ، وما العلائق ؟ قال : ما تراضى به الأهلون  فكان على عمومه فيما تراضوا به من قليل وكثير .  
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  
من استحل بدرهمين فقد استحل  يعني فقد استحل بالدرهمين .  
روى  
أبو هارون العبدي   ، عن  
أبي سعيد الخدري   أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  
لا جناح على امرئ أن يصدق امرأة ، قليلا أو كثيرا ، إذا أشهد وتراضوا     .  
وروى  
عاصم بن عبيد الله   ، عن  
عبد الله بن عامر بن ربيعة   ، عن أبيه :  
nindex.php?page=hadith&LINKID=924042أن امرأة تزوجت على نعلين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك ومالك بهاتين النعلين ؟ فقالت : نعم فأجازه     .  
وروى  
أبو حازم   عن  
سهل بن سعد الساعدي   nindex.php?page=hadith&LINKID=924043أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل خطب منه المرأة التي بذلت نفسها له : التمس ولو خاتما من حديد     .  
والخاتم من الحديد أقل الجواهر قيمة ، فدل على جواز  
القليل من المهر     .  
فإن قيل : فقد يجوز أن يكون من حديد صيني يساوي عشرة دراهم ، ويكون ثمن النعلين عشرة دراهم .   
[ ص: 399 ] قيل : لو كان ذلك مخالفا للعرف المعهود ، لنقل ، وليس في العرف أن يساوي نعلان في  
المدينة   ، وخاتم من حديد عشرة دراهم .  
على أن قوله :  
nindex.php?page=hadith&LINKID=924044التمس ولو خاتما من حديد  ، على طريق التقليل ، ولو أراد ما ذكروه من الصفة المتقدرة لكان عدوله إلى العشرة المقدرة أسهل وأفهم ، فبطل هذا التأويل .  
وروى  
يونس بن بكير   ، عن  
صالح بن مسلم بن رومان   عن  
أبي الزبير   ، عن  
جابر بن عبد الله   أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  
nindex.php?page=hadith&LINKID=924045لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما كانت به حلالا     .  
وروى  
قتادة   ، عن  
عبد الله بن المؤمل   ،  عن  
جابر   قال : إنا كنا لننكح المرأة على الحفنة أو الحفنتين من دقيق     .  
وروى  
قتادة   ، عن  
أنس بن مالك   قال :  تزوج  
عبد الرحمن بن عوف   امرأة من  
الأنصار   على وزن نواة من ذهب قومت ثلاثة دراهم     .  
وهذه كلها نصوص لا يجوز خلافها .  
ويدل عليه من طريق القياس : هو أن كل ما صلح أن يكون ثمنا ، صلح أن يكون مهرا كالعشرة ، ولأنه عقد ثبت فيه العشرة عوضا ، فصح أن يثبت دونها عوضا كالبيع ، ولأنه عوض على إحدى منفعتيها فلم يتقدر قياسا على أجرة منافعها ، ولأن ما يقابل البضع من البدل لا يتقدر في الشرع كالخلع ، ولأن كل عوض لا يتقدر أكثره لا يتقدر أقله قياسا على جميع الأعواض ، ولا يدخل عليه الجزية : لأنها ليست عوضا .  
فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :  
أحدها : أن ظاهرها متروك بالإجماع : لأنه لو نكحها بغير مهر حلت .  
والثاني : أن ما دون العشرة مال ، ألا تراه لو قال : له علي مال ثم بين درهما أو دانقا قبل منه ، فدلت الآية على جوازه في المهر .  
وأما الجواب عن حديث  
جابر   فمن وجهين :  
أحدهما : أنه ضعيف : لأنه رواية  
مبشر بن عبيد   وهو ضعيف ، عن  
الحجاج بن أرطأة   وهو مدلس .  
وقد روينا عن  
جابر   من طريق ثابتة قولا مسندا وفعلا منتشرا ، ما ينافيه ، فدل على بطلانه .  
والجواب الثاني : أنه يستعمل إن صح في امرأة بعينها ، كان مهر مثلها عشرة ، فحكم لها فيه بالعشرة .   
[ ص: 400 ] وأما قياسهم على القطع في السرقة فقولهم : مال يستباح به البضع فاسد من أربعة أوجه .  
أحدها : أنه لا يستباح القطع في السرقة بالمال ، وإنما يستباح بإخراجه .  
والثاني : أنه لو استبيح بالمال لما لزم رد المال ، ورد المال لازم .  
والثالث : أنه ليس يستباح به العضو ، وإنما يقطع به .  
والرابع : أن عقد النكاح لا يختص باستباحة عضو ، بل يستباح به جميع البدن ، فبطل التعليل بما قالوه .  
ثم المعنى في قطع السرقة أنه عن فعل كالجنايات ، فجاز أن يكون مقدرا كسائر الجنايات ، والمهر عوض في عقد مراضاة فلم يتقدر كسائر المعاوضات .  
وأما قياسهم على ما في مقابلته من البضع المقدر ففاسد بالبدل في الخلع ، هو غير مقدر ، وإن كان في مقابلة بضع مقدر ، ثم المعنى في البضع أنه صار مقدرا : لأنه لا يتجزأ ، فصار مقدرا لا يزيد ولا ينقص ، والمهر يتجزأ ، فصح أن يزيد وصح أن ينقص .  
وأما قياسهم على الشهادة : فالمعنى فيها أنها من شروط العقد فتقدرت كما تقدرت بالزوج والولي ، وليس كالمهر الذي هو من أعواض المراضاة ، ولو تقدر لخرج أن يكون عن مراضاة .