الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 402 ] [ ص: 403 ] باب الجعل والإجارة ، من الجامع من كتاب الصداق وكتاب النكاح ، من أحكام القرآن ، ومن كتاب النكاح القديم

مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وإذا أنكح صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، فلو نكحها على أن يعلمها قرآنا " .

قال الماوردي : وهذا كما قال يجوز أن يتزوجها على تعليم القرآن ، فيكون تعليم القرآن مهرا لها .

وقال أبو حنيفة ومالك : لا يجوز .

استدلالا بقول الله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [ النساء : 24 ] وليس تعليم القرآن مالا فلم يصح ابتغاء النكاح به .

وما روي عن أبي بن كعب أنه قال : لقنت رجلا من أهل الصفة قرآنا ، فأعطاني قوسا ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : أتحب أن يقوسك الله بقوس من نار ؟ قلت : لا ، قال : فاردده ، فلو جاز أخذ العوض عليه لما توعده عليه ، فدل تحريمه أن يأخذ عليه عوضا على تحريم أن يكون في نفسه عوضا .

ولأن كل ما لم يكن مالا ولا في مقابلته مال ، لم يجز أن يكون مهرا ؛ قياسا على طلاق ضرتها ، وعتق أمته .

قالوا : ولأن تعليم القرآن قربة ، فلم يجز أن يكون مهرا كالصلاة والصوم ، ولأن تعليم القرآن فرض ، فلم يجز أخذ العوض عليه كسائر الفروض .

ودليلنا : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي : أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، قد وهبت نفسي لك ، وقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إن لم يكن بك إليها حاجة فزوجنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عندك شيء تصدقها ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخذته منك عريت ، وإن تشقه عريت ، فالتمس شيئا ولو خاتما من حديد ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل معك من القرآن شيء ؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا ، فقال رسول [ ص: 404 ] الله صلى الله عليه وسلم : قد زوجتكها بما معك من القرآن . وهذا نص .

وروى عطاء ، عن أبي هريرة : أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرضت نفسها عليه فقال : اجلسي بارك الله فيك ، ثم دعا رجلا ، فقال : إني أريد أن أزوجكها إن رضيت ، فقال : ما رضيت لي يا رسول الله فقد رضيت ، فقال : هل عندك من شيء ؟ فقال : لا والله ، فقال : ما تحفظ من القرآن ؛ فقال : سورة البقرة والتي تليها ، فقال : قم فعلمها عشرين آية ، وهي امرأتك .

فإن قيل : وهو تأويل أبي جعفر الطحاوي معنى قوله : " قد زوجتكها بما معك من القرآن " ، أي لأجل فضيلتك بما معك من القرآن . قيل عن هذا جوابان :

أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : التمس ولو خاتما من حديد ؛ ليكون صداقا ، فلما لم يجد جعل القرآن بدلا منه ، فاقتضى أن يكون صداقا .

والثاني : أن هذا التأويل يدفعه حديث أبي هريرة ؛ لأنه قال : قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك .

فإن قالوا - وهو تأويل مكحول - أن هذا خاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل عنه جوابان :

أحدهما : أنه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتزوج بها ، فيصير مخصوصا بذلك ، وإنما كان مزوجا لها ، فلم يكن مخصوصا .

والثاني : أن ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى دليل يدل على تخصيصه ، وإلا كان فيه مشاركا لأمته .

فإن قيل : فقوله : " قد زوجتكها بما معك من القرآن " مجهول ، وكذلك قوله في حديث أبي هريرة : " قم فعلمها عشرين آية " هي مجهولة ، ولا يجوز أن يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقا مجهولا ، قيل عنه جوابان :

أحدهما : أنه كان معلوما ؛ لأنه سأل الرجل عما معه من القرآن ، فذكر سورا سماها فقال : زوجتكها بما معك من القرآن ، يعني السور المسماة ، وقوله في حديث أبي هريرة : " عشرين آية " يعني من السورة التي ذكرها ، وذلك يقتضي في الظاهر أن يكون من أولها ، فصار الصداق معلوما .

والثاني : أن المقصود بهذا النقل جواز أن يكون تعليم القرآن صداقا ، فاقتصر من الرواية على ما دل عليه ، وأمسك عن نقل ما عرف دليله من غيره .

[ ص: 405 ] ويدل عليه من طريق القياس أن كل منفعة صح أن يبذلها الغير عن الغير تبرعا جاز أن يبذلها مهرا ، قياسا على سائر الأعمال المباحة ، ولا يدخل عليه عسيب الفحل ؛ لأن المقصود منه الماء ، وهو عين وليست بمنفعة .

فأما الاستدلال بالآية : فنحن نقول بنطقها ، وهم لا يقولون بدليلها ، ونحن وإن قلنا بدليل الخطاب ، فقد نقلنا عنه نطق دليل آخر ، وأما الخبر فقد روي عن أبي بن كعب تارة ، وعن عبادة بن الصامت أخرى . وحديث عبادة أثبت ، وأيهما صح فعنه جوابان :

أحدهما : أنه يجوز أن يكون تعليمه للقرآن قد تعين عليه فرضه ، فلم يجز أن يعتاض عنه .

والثاني : أنه أخذه من غير شرط ، فلم يستحقه .

وأما قياسهم على طلاق امرأته وعتق أمته : فالمعنى فيه أنه لا ينتفع بالطلاق والعتق ، فلم يجز أن يكون صداقا ، وينتفع بتعليم القرآن ، فجاز أن يكون صداقا .

فإن قيل : فهي تنتفع بطلاق زوجته ، أو عتق أمته ؛ لأنه ينفرد بها .

قيل : ما تستحقه من النفقة والكسوة مع الضرة والأمة مثل ما تستحقه منفردة ، فلم يعد عليها منه نفع .

وأما قياسهم على الصلاة والصيام بعلة أنه قربة ، فمنتقض بكتب المصاحف وبناء المساجد يجوز أن يكون مهرا ، وإن كان قربة .

ثم المعنى في الصلاة والصيام أن النيابة فيهما لا تصح ، وأن نفعهما لا يعود على غير فاعليهما ، وليس كتعليم القرآن الذي يصح فيه النيابة ، ويعود نفعه على غير فاعله .

وأما قولهم أنه فرض فلم يجز أخذ العوض عنه ، فهو أنه إن كان فرضا ، فهو من فروض الكفايات ، ويجوز أنتؤخذ الأجرة فيما كان من فروض الكفايات ، كغسل الموتى ، وحمل الجنائز ، وحفر القبور .

فصل : فإذا تقرر أن تعليم القرآن يجوز أن يكون صداقا فلا بد أن يكون ما أصدقها منه معلوما تنتفي عنه الجهالة ؛ لأن الصداق المجهول لا يصح .

التالي السابق


الخدمات العلمية