الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ القسم الرابع ]

وأما القسم الرابع ، وهو أن يكون الصداق قد نقص فهذا على ضربين :

أحدهما : [ إيضاح الضرب الأول ]

أن يكون النقصان متميزا ، كعبدين مات أحدهما ، أو صبرة طعام تلف بعضها ، فلا يخلو حال الطلاق من أن يكون بعد الدخول أو قبله .

فإن كان بعد الدخول : فقد استكملت به جميع الصداق ، وقد تلف بعضه ، فينبني جوابه على ما نقوله في الرجوع ببدل التالف ، وفيه قولان :

أحدهما - وهو القديم - : أنها ترجع بقيمة ما تلف ، فعلى هذا لا يبطل الصداق في التالف ولا في الباقي ، وترجع بعين ما بقي وبقيمة التالف إن لم يكن له مثل ، وبمثله إن كان له مثل ، ولا خيار لها في مقام ولا فسخ .

والقول الثاني - وهو الجديد - : أن الرجوع عند التلف يكون بمهر المثل .

فعلى هذا قد بطل الصداق فيما تلف ، وصح على الصحيح من مذهب الشافعي فيما سلم ، فلا وجه لمن خرج فيه من أصحابنا قولا ثانيا من تفريق الصفقة أنه باطل في السالم لبطلانه في التالف ؛ لأن الصفقة لم تتفرق في حال العقد ، وإنما تفرقت بعد صحة العقد .

وإذا كان كذلك فالزوجة بالخيار لأجل ما تلف بين أن تقيم على الباقي أو تفسخ ، فإن فسخت رجعت على الزوج بمهر المثل ، وعاد الباقي من الصداق إلى ملك الزوج .

وإن أقامت فمذهب الشافعي : أنها تقيم عليه بحسابه من الصداق وقسطه ، وترجع بقسط ما بقي من مهر المثل .

فإن كان التالف النصف رجعت بنصف مهر المثل ، وإن كان الثلث رجعت بثلثيه ، ولا وجه لمن خرج فيه من أصحابنا قولا ثانيا ، أنها تقيم على الباقي بجميع الصداق ؛ اعتبارا بتفريق الصفقة في حال العقد ؛ لما ذكرنا من الفرق بين ما اقترن بالعقد ، وبين ما حدث بعد صحة العقد .

وإن كان الطلاق قبل الدخول فلها نصف الصداق ، وهو على ضربين :

أحدهما : أن يكون متماثل الأجزاء كالحنطة ، فلها أن تأخذ من الباقي نصف الجميع ، ولا خيار لها .

والضرب الثاني : أن يكون مختلف الأجزاء ، كعبدين مات أحدهما ففيه قولان :

أحدهما : أنها تأخذ نصف جميع العبد الباقي إذا تساوت قيمتهما ، فعلى هذا لا خيار لها .

والقول الثاني : أنها تأخذ نصف الباقي ، وفيما ترجع ببدله من نصف التالف قولان :

أحدهما : ترجع بقيمة نصف التالف ، وهو القديم ، فعلى هذا لا خيار لها .

[ ص: 429 ] والقول الثاني : أنها ترجع بقسط ذلك من مهر المثل فتصير مستوفية للنصف من صداق مهر المثل ، فعلى هذا يكون لها الخيار بين هذا وبين أن تفسخ وترجع بنصف مهر المثل ، وقد ذكرنا هذا في كتاب الزكاة ، فهذا حكم النقصان إذا كان متميزا .

[ إيضاح بيان الضرب الثاني ]

والضرب الثاني أن يكون النقصان غير متميز كالعبد إذا كان سمينا فهزل ، أو صحيحا فمرض ، أو بصيرا فعمي ، فلها الخيار ، سواء قل العيب أو كثر .

وقال أبو حنيفة : لا خيار لها ، إلا أن يتفاحش العيب .

احتجاجا : بأنها إذا ردت الصداق بالعيب اليسير رجعت بقيمته سليما ، وقد يخطئ المقومان فيقومانه صحيحا بقيمته مع يسير العيب ؛ لأن يسير العيب لا يأخذ من القيمة إلا يسيرا ، فعفى عن يسير العيب ؛ لأنه لا يتحقق استدراكه ، ولم يعف عن كثيره ؛ لأنه يتحقق استدراكه ، ولم يعف في البيع عن يسيره ولا كثيره ؛ ولأنه قد تحقق استدراكه في الرجوع بالثمن دون القيمة .

ودليلنا : هو أن ما جاز رده بكثير العيب ، جاز رده بيسيره ، كالثمن ، ولأنه عيب يجوز به الرد في البيع ، فجاز به الرد في الصداق كالكثير .

فأما الجواب عما ذكره : فهو أننا نوجب مع الرد مهر المثل - في أصح القولين - دون القيمة .

ثم لو وجب الرجوع بالقيمة لاقتضى أن يحمل التقويم على الصواب دون الخطأ ، وعلى فرق المقوم بين السليم والمعيب .

فإذا تقرر ما ذكرنا ، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون ذلك بحادث سماء .

والثاني : أن يكون بجناية الزوج .

والثالث : أن يكون بجناية أجنبي .

فإن كان بحادث سماء ، كهزال السمين ومرض الصحيح ، فإن سمحت بنقصه أخذته ناقصا إن طلقت بعد الدخول ، ونصفه إن طلقت قبله ، ولا خيار للزوج فيما حصل له من نصفه الناقص ؛ لأنه مضمون عليه .

وإن لم تسمح بنقصه كان خيارها في الفسخ معتبرا بما ترجع به لو فسخت .

فإن قيل : إنها ترجع بقيمته ، فلا خيار لها في الفسخ ، وتأخذه ناقصا مع أرش نقصه إن طلقت بعد الدخول ، ونصفه ونصف أرشه إن طلقت قبله . وإنما سقط خيارها في الفسخ ؛ لأن أخذه ناقصا مع الأرش أخص بحقها من العدول عنه إلى قيمته .

وإن قيل : لو فسخت رجعت بمهر المثل ، فلها الخيار في الفسخ أو المقام . فإن فسخت [ ص: 430 ] رجعت بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول ، وبنصفه إن طلقت قبله ، وإن أقامت أخذته ناقصا ولا أرش لها ، كالبائع إذا رضي أن يتمسك بالمعيب ، وإن طلقت قبل الدخول رجعت بنصفه ناقصا من غير أرش ويكون نصفه معيبا للزوج ولا خيار له فيه ؛ لأنه مضمون عليه .

وإن كان النقصان بجناية الزوج : كأنه قطع إحدى يديه ، أو قلع إحدى عينيه ، فهو عضو يضمنه الجاني بنصف القيمة ، ويضمنه غير الجاني بما نقص فيكون الزوج هاهنا ضامنا له بأكثر الأمرين من نقصه أو نصف قيمته . وإن كان نصف القيمة أكثر لزمه ذلك ؛ لأنه قد يلتزمه بالجناية من غير يد ضامنة فلأن يلزمه مع اليد الضامنة أولى ، وإن كان نقصه أكثر من نصف القيمة لزمه ذلك ؛ لأنه قد يلتزمه باليد الضامنة من غير جناية فلأن يلتزمه مع الجناية أولى ، وإذا لزمه ضمان أكثر الأمرين ترتب جوابه على ما يوجبه في الرجوع مع التلف .

فإن قيل : إن تلف الصداق موجب للرجوع بقيمته على قوله في القديم ، فلها أن تأخذ العبد ناقصا ، وما أوجبناه من ضمان نقصه ، أو ما يقدر بجنايته إن طلقت بعد الدخول ، أو نصف ذلك إن طلقت قبله ، ولا خيار بها .

وإن قيل إن تلف الصداق موجب للرجوع بمهر المثل ، فهي هاهنا بالخيار بين المقام أو الفسخ ، فإن فسخت رجعت بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول أو بنصفه إن طلقت قبله . وإن أقامت أخذت العبد ناقصا ، وما أوجبه ضمان الجناية وهو نصف القيمة ، ولا اعتبار بما زاد عليه من ضمان النقص باليد الضامنة على هذا القول . ألا تراه لو نقصت قيمته من غير جناية لم يضمنها على هذا القول إذا أقامت ولم يفسخ هذا إن كان الطلاق بعد الدخول ، فإن كان قبله أخذت نصفه وربع القيمة بالجناية .

وإن كان النقصان بجناية أجنبي ، كأنه قطع إحدى يديه ، أو فقأ إحدى عينيه ، فعلى الجاني نصف القيمة أرش الجناية ، ويضمن الزوج نقصان القيمة قل أو كثر ضمان اليد ، ثم يترتب حقها فيما ترجع به على ما مضى من القولين .

إن قلنا : إنها ترجع مع التلف بالقيمة ، رجعت عليه إن طلقت بعد الدخول بالعبد الناقص ، ورجعت معه بأكثر الأمرين من ضمان الجناية وهو نصف القيمة ، أو ضمان اليد وهو نقصان القيمة . وهي بالخيار في الرجوع على من شاءت منهما . فإن رجعت على الجاني رجعت عليه بنصف القيمة ، فإن كان هو الأكثر فقد استوفت ولم يرجع على الزوج بشيء ولا يرجع الزوج على الجاني بشيء ، وإن كان هو الأقل رجعت بالباقي من نقصان القيمة على الزوج ولم يرجع به الزوج على الجاني ، وإن رجعت على الزوج رجعت عليه بنقصان القيمة ، فإن كان هو الأكثر فقد استوفت ورجع الزوج على الجاني بنصف القيمة ، وإن كان هو الأقل رجعت على الجاني بالباقي من نصف القيمة ، ورجع الزوج عليه بما غرم من نقصان القيمة .

[ ص: 431 ] فإن طلقت قبل الدخول رجعت بنصف ذلك .

وإن قلنا : إنها ترجع مع التلف بمهر المثل على قوله في الجديد ، فهي بالخيار بين المقام أو الفسخ ، فإن فسخت رجعت على الزوج بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول ، وبنصفه إن طلقت قبله ، ورجع الزوج على الجاني بنصف القيمة أرش الجناية ، وإن أقامت كان لها إن طلقت بعد الدخول أخذ العبد ونصف القيمة التي هي أرش الجناية ، سواء كانت أقل الأمرين أو أكثرهما ، فإن كان هو الأقل كان لها الخـيار في الرجوع به على من شاءت منهما ، فإن رجعت به على الزوج رجع به الزوج على الجاني ، وإن رجعت به على الجاني لم يرجع به الجاني على أحد . وإن كان نصف القيمة هو الأكثر لم يكن لها أن ترجع على الزوج إلا بنقصان القيمة ، وترجع بالباقي من النصف على الجاني ، ويرجع عليه الزوج بما غرم من نقصان القيمة ، وإن رجعت على الجاني رجعت عليه بنصف القيمة وقد استوفت ، وإن كان الطلاق قبل الدخول رجعت بالنصف من ذلك ، ورجع الزوج بالنصف الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية