الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وإن خالعته بشيء مما عليه من المهر ، فما بقي فعليه نصفه ، ( قال المزني ) : هذا أشبه بقوله لأن النصف مشاع فيما قبضت وبقي " .

[ ص: 524 ] قال الماوردي : وهذه المسألة من الخلع أوردها المزني في هذا الموضع من الصداق لأمرين :

أحدهما : أنه خلع على الصداق ، فأوردها فيه .

والثاني : ليفرق بها بين ما عاد من الصداق إلى الزوج بالهبة ، وبين ما عاد إليه بالخلع .

والخلع : عقد تملك به الزوجة نفسها ، ويملك به الزوج مال خلعها ، كالنكاح الذي يملك به الزوج بضعها ، وتملك الزوجة به صداقها ، إلا أن الزوجة في الخلع تقوم مقام الزوج في النكاح ؛ لأنها تملك بالخلع بضع نفسها كما ملك الزوج بالنكاح بضعها ، والزوج في الخلع يقوم مقام الزوجة في النكاح ؛ لأنه يملك بالخلع البدل ، كما ملكت الزوجة بالنكاح المهر .

فإذا خالع الرجل زوجته على صداقها ، فهو على ضربين :

أحدهما : أن يكون بعد الدخول ، فالخلع به جائز ، سواء خالعها بجميع الصداق أو ببعضه ؛ لأنه قد استقر لها جميعه بالدخول فخالعته على ما قد استقر ملكها عليه .

والضرب الثاني : أن يخالعها قبل الدخول ، فإن الزوج يملك من الصداق بطلاقه في غير الخلع نصفه ، ويبقى عليه نصفه ؛ لأن الفرقة إذا وقعت قبل الدخول من جهة الزوج سقط عنه نصف الصداق ، ولو وقعت من جهة الزوجة سقط عنه جميع الصداق .

والفرقة في الخلع وإن تمت بهما ، فالمغلب فيها الزوج دونها ؛ لأنه قد يجوز أن يخالعها مع غيرها ، ولا يجوز أن تخالعه مع غيره ، وإذا كان كذلك ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يخالعها على جميع الصداق ، وهذا يأتي في كتاب الخلع .

والضرب الثاني : أن يخالعها على بعضه ، وهو المسطور هاهنا ، فإذا أصدقها ألفا ، وخالعها قبل الدخول على نصفها ، وهو خمسمائة .

قال الشافعي : فما بقي فعليه نصفه ، فجعل الشافعي الخمسمائة التي خالعها عليها يكون الخلع منها على نصفها وهو مائتان وخمسون ، ونصفها يملكه بطلاقه ، والنصف الباقي من الصداق وهو خمسمائة يملك نصفه بطلاقه وهو مائتان وخمسون ، ويبقى عليه نصفه وهو مائتان وخمسون يسوقه إليها .

وقد كان الظاهر يقتضي أن يملك جميع النصف بالخلع ، ويملك النصف الآخر بالطلاق قبل الدخول ، فلا يبقى عليه من الصداق شيء .

فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أوجه :

[ ص: 525 ] أحدها - وهو قول أبي علي بن خيران - : أن المسألة مصورة أنه خالعها على نصف الألف وهو خمسمائة ، وهما يعلمان أنه يسقط بالطلاق نصفها ، ويبقى في الخلع نصفها ، فصار كأنه خالعها من الخمسمائة على ما يملكه منها بعد الطلاق وهو مائتان وخمسون ، فملك تلك الخمسمائة بخلعه وطلاقه ، ويبقى لها عليه خمسمائة ، ملك الزوج نصفها بطلاقه ، وذلك مائتان وخمسون ، وهو معنى قول الشافعي : وما بقي فعليه نصفه ، فصار ثلاثة أرباع الصداق وهو سبعمائة وخمسون ساقطا عن الزوج . النصف بالطلاق ، والربع بالخلع ، وبقي عليه الربع للزوجة ، وهو مائتان وخمسون .

فقيل لابن خيران : فعلى هذا ما تقول فيمن باع عبده وعبد غيره بألف ، وهما يعلمان أن أحد العبدين مغصوب ؟ .

قال : يصح البيع في العبد المملوك بجميع الألف ، ويكون ذكر المغصوب في العقد لغوا ، كما قال في الخلع .

والوجه الثاني : أن المسألة مصورة على أنها خالعته على ما يسلم لها بعد الطلاق من خمسمائة ، وصرحت به لفظا في العقد ، ولو لم تصرح به لم يكن عليهما به مقنع فيسقط عنه جميع الخمسمائة بالخلع والطلاق ، ويسقط عنه نصف الخمسمائة الأخرى بالطلاق ، ويبقى عليه نصفها وهو مائتان وخمسون ، وهو معنى قول الشافعي : وما بقي فعليه نصفه ، فيكون الجواب موافقا لجواب ابن خيران إذا صرحا بما علماه ، ومخالفا إن لم يصرحا به وإن علماه .

والوجه الثالث - وهو قول أبي إسحاق المروزي ، وأبي حامد المروزي - : أن المسألة مصورة على إطلاقهما لذلك في أنه خالعها على خمسمائة هي نصف الألف ، وقد كانت وقت العقد مالكة لجميع الألف ، فصح الخلع في نصفها ثم سقط نصف الخمسمائة التي خالعها بها بالطلاق ، فصار كمن خالعها على مال تلف نصفه بعد العقد وقبل القبض ، فيأخذ النصف الباقي .

وفيما يرجع به بدل النصف التالف قولان :

أحدهما - وهو قوله في القديم - : يرجع بمثل التالف إن كان ذا مثل ، أو بقيمته إن لم يكن له مثل .

وعلى قوله في الجديد : يرجع عليها بنصف مهر المثل ، فعلى هذا يكون الخلع قد صح على نصف الخمسمائة وهو مائتان وخمسون ، وبطل في نصفها وهو مائتان وخمسون ، واستحق بدله على قوله في القديم مثله وهو مائتان وخمسون ، وعلى قوله في الجديد نصف مهر المثل .

[ ص: 526 ] ثم بقي عليه نصف الصداق وهو خمسمائة قد سقط عنه نصفه بالطلاق وهو مائتان وخمسون ، وبقي عليه نصفه مائتان وخمسون ، وهو معنى قول الشافعي : وما بقي فعليه نصفه ، فيصير الباقي عليه مائتان وخمسون ، وفي الباقي قولان :

أحدهما - وهو القديم - : مائتان وخمسون .

والثاني - وهو الجديد - : نصف مهر المثل .

فيكون الشافعي قد ذكر الباقي عليه ، ولم يذكر الباقي له .

وهل يكون الباقي عليه قصاصا من الباقي له أم لا ؟ على اختلاف أقاويله في من له مال وعليه مثله ، فإن جعل ذلك قصاصا : برئا ، وإن لم يجعله قصاصا : تقابضا .

فإن قيل : هلا قلتم إذا خالعها على نصف الألف أنه يصح الخلع في جميع النصف ؛ لأنه يسلم لها بعد الطلاق النصف ، كما لو خالعته على نصف ألف بينها وبين شريك لها أنه يصح في جميع النصف ؛ لأنه قد سلم لها من جميع الألف ؟

قيل : الفرق بينهما : أنها في الصداق قد خالعت على نصفه ، وهي مالكة لجميعه ، فإذا سقط بعد الخلع نصفه بالطلاق لم يتعين حقها من النصف في الذي خالعت به دون الباقي ، فلذلك صار مشتركا فيها ، وليس كذلك حالها في الألف المشتركة ؛ لأنها لم تملك منها وقت الخلع إلا النصف ، فانصرف العقد إلى النصف الذي لها ، ولم يتوجه إلى النصف الذي يشركها فافترقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية