[ القول في  
الخلوة في إيجابها المهر     ]  
مسألة : قال  
الشافعي      : " فإن  
دخلت عليه فلم يمسها حتى طلقها ، فلها نصف المهر ؛  لقول الله تعالى  
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم  ،      
[ ص: 540 ] فإن احتج محتج بالأثر عن  
عمر   رضي الله عنه في إغلاق الباب وإرخاء الستر أنه يوجب المهر ، فمن قول  
عمر   ما ذنبهن لو جاء بالعجز من قبلكم ؟ فأخبر أنه يجب إذا خلت بينه وبين نفسها كوجوب الثمن بالقبض ، وإن لم يغلق بابا ولم يرخ سترا " .  
قال  
الماوردي      : وصورتها ؛ أن يطلق الرجل زوجته المسمى لها صداقا معلوما ، فلا يخلو حال طلاقه من ثلاثة أقسام :  
أحدها : أن يكون  
قبل الدخول بها وقبل الخلوة  ، وليس لها من المهر إلا نصفه ، وملك الزوج نصفه ؛ لقوله تعالى :  
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم     [ البقرة : 237 ] .  
والقسم الثاني : أن  
يطلقها بعد الدخول بوطء تام تغيب به الحشفة ، فقد استقر لها جميع المهر  الذي كانت مالكة له بالعقد ؛ لقول الله تعالى :  
وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض     [ النساء : 21 ] .  
وهذان القسمان متفق عليهما .  
والقسم الثالث : أن  
يطلقها بعد الخلوة بها وقبل الإصابة لها  ، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة مذاهب :  
أحدها - وهو قول  
الشافعي   في الجديد والمعمول عليه من مذهبه - : أنه ليس لها من المهر إلا نصفه ، ولا تأثير للخلوة في كمال مهر ، ولا إيجاب عدة .  
وبه قال من الصحابة :  
ابن عباس   ،  
وابن مسعود      .  
ومن التابعين :  
الشعبي   ،  
وابن سيرين      .  
ومن الفقهاء :  
أبو ثور      .  
والمذهب الثاني : أن الخلوة كالدخول في كمال المهر ووجوب العدة .  
وبه قال من الصحابة :  
عمر بن الخطاب   ،  
وعلي بن أبي طالب   ،  
وعبد الله بن عمر   رضي الله عنهم .  
ومن التابعين :  
الزهري      .  
ومن الفقهاء ؛  
الثوري   ،  
وأبو حنيفة      . وبه قال  
الشافعي   في القديم .  
إلا أن  
أبا حنيفة   يعتبر الخلوة التامة في كمال المهر ووجوب العدة بألا يكونا محرمين ولا صائمين .  
والمذهب الثالث : أن الخلوة يد لمدعي الإصابة منهما في كمال المهر أو وجوب العدة ، فإن لم يدعياها لم يكمل بالخلوة مهر ، ولا يجب بها عدة . وهذا مذهب  
مالك   ، وبه قال  
الشافعي   في " الإملاء " .   
[ ص: 541 ] واستدل من نصر قول  
أبي حنيفة   في أن الخلوة تقتضي كمال المهر ووجوب العدة بقول الله تعالى :  
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا  وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا  ، ولهم من الآية دليلان :  
أحدهما : عموم قوله  
فلا تأخذوا منه شيئا  ، إلا ما خصه دليل .  
والثاني : قوله  
وقد أفضى بعضكم إلى بعض  ، قال  
الفراء      : معناه وقد خلا بعضكم ببعض ؛ لأن الفضاء هو الموضع الواسع الخالي ، وقول  
الفراء   فيما تعلق باللغة حجة .  
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  
من كشف قناع امرأة فقد وجب لها المهر كاملا     " .  
. وهذا نص .  
وروي  عن  
عمر بن الخطاب   ، رضي الله عنه ، أنه قال " ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم     " .  
وروي  عن  
زرارة بن أوفى   أنه قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب عليه المهر ؛ دخل بها أو لم يدخل  ، وقد قال النبي  
nindex.php?page=hadith&LINKID=920574عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ     .  
ومن القياس : أن النكاح عقد على منفعة ، فوجب أن يكون التمكين من المنفعة بمنزلة استيفائها في استقرار بدلها كالإجارة ، ولأن التسليم المستحق بالعقد قد وجد من جهتها فوجب أن يستقر العوض لها ، أصله : إذا وطئها .  
ولأن المهر في مقابلة الإصابة كما أن النفقة في مقابلة الاستمتاع ، ثم ثبت أن التمكين من الاستمتاع شرط بمنزلة الاستمتاع في استقرار النفقة فوجب أن يكون التمكين من الإصابة بمنزلة الإصابة في استقرار المهر .  
والدليل على أن  
الخلوة لا يتعلق بها حكم في كمال مهر ، ولا وجوب عدة ، ولا بدء في دعوى     : قول الله تعالى  
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم  والمسيس عبارة عن الوطء ؛ لثلاثة معان :  
أحدها : أنه مروي في التفسير عن  
ابن عباس   ،  
وابن مسعود      .  
والثاني : أن المسيس كناية لما يستقبح صريحه ، وليست الخلوة مستقبحة التصريح فيكنى عنها ، والوطء مستقبح فكني بالمسيس عنه .  
والثالث : أن المسيس لا يتعلق به على المذهبين كمال المهر ؛ لأنه لو خلا بها من غير مسيس كمل عندهم المهر ، ولو وطئها من غير خلوة كمل عليه المهر ، ولو مسها من غير خلوة ولا وطء لم يكمل المهر ، فكان حمل المسيس على الوطء الذي يتعلق به      
[ ص: 542 ] الحكم أولى من حمله على غيره ، وإذا كان كذلك فقد جعل الطلاق قبل المسيس الذي هو الوطء موجبا لاستحقاق نصف المهر .  
ومن طريق القياس : أنه طلاق قبل الإصابة فوجب ألا يكمل به المهر كالطلاق قبل الخلوة ، ولأنها خلوة خلت عن الإصابة ، فوجب ألا يكمل بها المهر كالخلوة إذا كان أحدهما محرما أو صائما فرضا ؛ ولأن ما لا يوجب الغسل لا يوجب كمال المهر كالقبلة من غير خلوة ، ولأن الخلوة لما لم يقم في حقها مقام الإصابة لم يقم في حقه مقام الإصابة كالنظر ، وبيان ذلك أنه لو خلا بها لم يسقط بها حق الإيلاء والعنة ، ولأن ما لا يثبت به حق التسليم في أحد جنبي العقد لم يثبت به حق التسليم في الجنبة الأخرى قياسا على تسليم المبيع والمؤاجر إذا كان دون قبضهما حائل ، ولأن للوطء أحكاما تختص به من وجوب الحد والغسل ، وثبوت الإحصان والإحلال للزوج الأول وسقوط العنة وحكم الإيلاء ، وإفساد العبادة ووجوب الكفارة ، واستحقاق المهر في النكاح الفاسد ، وكماله في الصحيح ، ووجوب العدة فيهما .  
فلما انتفى عن الخلوة جميع هذه الأحكام سوى تكميل المهر والعدة انتفى عنها هذان ، اعتبارا بسائر الأحكام .  
وتحريره قياسا : أنه حكم من أحكام الوطء فوجب أن ينتفي عن الخلوة ، قياسا على ما ذكرنا .  
فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :  
أحدهما : أن  
الفراء   قد خولف في تفسير الإفضاء ، فقال  
الزجاج   في " معانيه " : أنه الغشيان ، وقال  
ابن قتيبة   في " غريب القرآن " : هو الجماع . فكان قول  
الفراء   محجوجا بغيره .  
والثاني : أن الآية التي استدللنا بها مفسرة تقضي على هذا المجمل .  
وأما الجواب عن الخبر : فهو أن كشف القناع لا يتعلق به كمال المهر عندنا ولا عندهم ، فإن جعلوه كناية في الخلوة كان جعله كناية في الوطء أولى .  
وأما الجواب عن الأثر  عن  
عمر   رضي الله عنه في قوله : " ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم     " ، فهو أنه يقتضي أن يكون لها المهر مع العجز ، سواء كانت خلوة أو لم تكن ، فيكون معناه استحقاق دفعه قبل الطلاق ، وكذلك الجواب عن حديث  
زرارة بن أوفى      .  
وأما الجواب عن قياسهم على الإجارة فمنتقض ممن سلمت نفسها في صوم ، أو إحرام ، أو حيض .   
[ ص: 543 ] فإن قيل : الصوم والإحرام مانع ، فلم يتم التسليم .  
قيل : الجب والعنة أبلغ في المنع ، ولا يمنع من التسليم الموجب لكمال المهر عندهم بالخلوة ، على أنه لو وطئ في الصيام والإحرام لكمل المهر واستقر ، فجاز أن تكون الخلوة لو أوجبت كمال المهر في غير الإحرام موجبة لكماله في الإحرام كالوطء .  
على أن صوم التطوع يصير عندهم واجبا بالدخول فيه ، ولا يمنع الخلوة فيه من كمال المهر عندهم ، فكذلك غيره من صوم الفرض .  
على أن الإجارة مقدرة بالزمان ، فجاز أن تستقر الأجرة بالتمكين فيه لتقضيه ، وليس النكاح مقدرا بالزمان ، فلم يستقر المهر فيه بالتمكين إلا بانقضاء زمانه بالموت أو بالوطء في حال الحياة ؛ لأنه مقصود بالعقد .  
وأما قياسهم على الوطء : فالمعنى في الأصل استيفاء حقه بالوطء ، وليس كذلك الخلوة .  
وأما استدلالهم بالنفقة : فالجواب عنه أن النفقة مقابلة بالتمكين دون الوطء ، ولذلك وجب لها النفقة مع التمكين في الصيام والإحرام وليس كذلك المهر ؛ لأنه في مقابلة الوطء ؛ لأنهم لا يكملون المهر بالخلوة في حال الإحرام والصيام .