الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ القول في الخلوة في إيجابها المهر ]

مسألة : قال الشافعي : " فإن دخلت عليه فلم يمسها حتى طلقها ، فلها نصف المهر ؛ لقول الله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ، [ ص: 540 ] فإن احتج محتج بالأثر عن عمر رضي الله عنه في إغلاق الباب وإرخاء الستر أنه يوجب المهر ، فمن قول عمر ما ذنبهن لو جاء بالعجز من قبلكم ؟ فأخبر أنه يجب إذا خلت بينه وبين نفسها كوجوب الثمن بالقبض ، وإن لم يغلق بابا ولم يرخ سترا " .

قال الماوردي : وصورتها ؛ أن يطلق الرجل زوجته المسمى لها صداقا معلوما ، فلا يخلو حال طلاقه من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون قبل الدخول بها وقبل الخلوة ، وليس لها من المهر إلا نصفه ، وملك الزوج نصفه ؛ لقوله تعالى : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم [ البقرة : 237 ] .

والقسم الثاني : أن يطلقها بعد الدخول بوطء تام تغيب به الحشفة ، فقد استقر لها جميع المهر الذي كانت مالكة له بالعقد ؛ لقول الله تعالى : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض [ النساء : 21 ] .

وهذان القسمان متفق عليهما .

والقسم الثالث : أن يطلقها بعد الخلوة بها وقبل الإصابة لها ، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة مذاهب :

أحدها - وهو قول الشافعي في الجديد والمعمول عليه من مذهبه - : أنه ليس لها من المهر إلا نصفه ، ولا تأثير للخلوة في كمال مهر ، ولا إيجاب عدة .

وبه قال من الصحابة : ابن عباس ، وابن مسعود .

ومن التابعين : الشعبي ، وابن سيرين .

ومن الفقهاء : أبو ثور .

والمذهب الثاني : أن الخلوة كالدخول في كمال المهر ووجوب العدة .

وبه قال من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم .

ومن التابعين : الزهري .

ومن الفقهاء ؛ الثوري ، وأبو حنيفة . وبه قال الشافعي في القديم .

إلا أن أبا حنيفة يعتبر الخلوة التامة في كمال المهر ووجوب العدة بألا يكونا محرمين ولا صائمين .

والمذهب الثالث : أن الخلوة يد لمدعي الإصابة منهما في كمال المهر أو وجوب العدة ، فإن لم يدعياها لم يكمل بالخلوة مهر ، ولا يجب بها عدة . وهذا مذهب مالك ، وبه قال الشافعي في " الإملاء " .

[ ص: 541 ] واستدل من نصر قول أبي حنيفة في أن الخلوة تقتضي كمال المهر ووجوب العدة بقول الله تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ، ولهم من الآية دليلان :

أحدهما : عموم قوله فلا تأخذوا منه شيئا ، إلا ما خصه دليل .

والثاني : قوله وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، قال الفراء : معناه وقد خلا بعضكم ببعض ؛ لأن الفضاء هو الموضع الواسع الخالي ، وقول الفراء فيما تعلق باللغة حجة .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كشف قناع امرأة فقد وجب لها المهر كاملا " .

. وهذا نص .

وروي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال " ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم " .

وروي عن زرارة بن أوفى أنه قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب عليه المهر ؛ دخل بها أو لم يدخل ، وقد قال النبي عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ .

ومن القياس : أن النكاح عقد على منفعة ، فوجب أن يكون التمكين من المنفعة بمنزلة استيفائها في استقرار بدلها كالإجارة ، ولأن التسليم المستحق بالعقد قد وجد من جهتها فوجب أن يستقر العوض لها ، أصله : إذا وطئها .

ولأن المهر في مقابلة الإصابة كما أن النفقة في مقابلة الاستمتاع ، ثم ثبت أن التمكين من الاستمتاع شرط بمنزلة الاستمتاع في استقرار النفقة فوجب أن يكون التمكين من الإصابة بمنزلة الإصابة في استقرار المهر .

والدليل على أن الخلوة لا يتعلق بها حكم في كمال مهر ، ولا وجوب عدة ، ولا بدء في دعوى : قول الله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم والمسيس عبارة عن الوطء ؛ لثلاثة معان :

أحدها : أنه مروي في التفسير عن ابن عباس ، وابن مسعود .

والثاني : أن المسيس كناية لما يستقبح صريحه ، وليست الخلوة مستقبحة التصريح فيكنى عنها ، والوطء مستقبح فكني بالمسيس عنه .

والثالث : أن المسيس لا يتعلق به على المذهبين كمال المهر ؛ لأنه لو خلا بها من غير مسيس كمل عندهم المهر ، ولو وطئها من غير خلوة كمل عليه المهر ، ولو مسها من غير خلوة ولا وطء لم يكمل المهر ، فكان حمل المسيس على الوطء الذي يتعلق به [ ص: 542 ] الحكم أولى من حمله على غيره ، وإذا كان كذلك فقد جعل الطلاق قبل المسيس الذي هو الوطء موجبا لاستحقاق نصف المهر .

ومن طريق القياس : أنه طلاق قبل الإصابة فوجب ألا يكمل به المهر كالطلاق قبل الخلوة ، ولأنها خلوة خلت عن الإصابة ، فوجب ألا يكمل بها المهر كالخلوة إذا كان أحدهما محرما أو صائما فرضا ؛ ولأن ما لا يوجب الغسل لا يوجب كمال المهر كالقبلة من غير خلوة ، ولأن الخلوة لما لم يقم في حقها مقام الإصابة لم يقم في حقه مقام الإصابة كالنظر ، وبيان ذلك أنه لو خلا بها لم يسقط بها حق الإيلاء والعنة ، ولأن ما لا يثبت به حق التسليم في أحد جنبي العقد لم يثبت به حق التسليم في الجنبة الأخرى قياسا على تسليم المبيع والمؤاجر إذا كان دون قبضهما حائل ، ولأن للوطء أحكاما تختص به من وجوب الحد والغسل ، وثبوت الإحصان والإحلال للزوج الأول وسقوط العنة وحكم الإيلاء ، وإفساد العبادة ووجوب الكفارة ، واستحقاق المهر في النكاح الفاسد ، وكماله في الصحيح ، ووجوب العدة فيهما .

فلما انتفى عن الخلوة جميع هذه الأحكام سوى تكميل المهر والعدة انتفى عنها هذان ، اعتبارا بسائر الأحكام .

وتحريره قياسا : أنه حكم من أحكام الوطء فوجب أن ينتفي عن الخلوة ، قياسا على ما ذكرنا .

فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

أحدهما : أن الفراء قد خولف في تفسير الإفضاء ، فقال الزجاج في " معانيه " : أنه الغشيان ، وقال ابن قتيبة في " غريب القرآن " : هو الجماع . فكان قول الفراء محجوجا بغيره .

والثاني : أن الآية التي استدللنا بها مفسرة تقضي على هذا المجمل .

وأما الجواب عن الخبر : فهو أن كشف القناع لا يتعلق به كمال المهر عندنا ولا عندهم ، فإن جعلوه كناية في الخلوة كان جعله كناية في الوطء أولى .

وأما الجواب عن الأثر عن عمر رضي الله عنه في قوله : " ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم " ، فهو أنه يقتضي أن يكون لها المهر مع العجز ، سواء كانت خلوة أو لم تكن ، فيكون معناه استحقاق دفعه قبل الطلاق ، وكذلك الجواب عن حديث زرارة بن أوفى .

وأما الجواب عن قياسهم على الإجارة فمنتقض ممن سلمت نفسها في صوم ، أو إحرام ، أو حيض .

[ ص: 543 ] فإن قيل : الصوم والإحرام مانع ، فلم يتم التسليم .

قيل : الجب والعنة أبلغ في المنع ، ولا يمنع من التسليم الموجب لكمال المهر عندهم بالخلوة ، على أنه لو وطئ في الصيام والإحرام لكمل المهر واستقر ، فجاز أن تكون الخلوة لو أوجبت كمال المهر في غير الإحرام موجبة لكماله في الإحرام كالوطء .

على أن صوم التطوع يصير عندهم واجبا بالدخول فيه ، ولا يمنع الخلوة فيه من كمال المهر عندهم ، فكذلك غيره من صوم الفرض .

على أن الإجارة مقدرة بالزمان ، فجاز أن تستقر الأجرة بالتمكين فيه لتقضيه ، وليس النكاح مقدرا بالزمان ، فلم يستقر المهر فيه بالتمكين إلا بانقضاء زمانه بالموت أو بالوطء في حال الحياة ؛ لأنه مقصود بالعقد .

وأما قياسهم على الوطء : فالمعنى في الأصل استيفاء حقه بالوطء ، وليس كذلك الخلوة .

وأما استدلالهم بالنفقة : فالجواب عنه أن النفقة مقابلة بالتمكين دون الوطء ، ولذلك وجب لها النفقة مع التمكين في الصيام والإحرام وليس كذلك المهر ؛ لأنه في مقابلة الوطء ؛ لأنهم لا يكملون المهر بالخلوة في حال الإحرام والصيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية