الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ويفعلون مثل فعله إلا أنه أسر قرأ من خلفه وإذا جهر لم يقرأ من خلفه " قال المزني ، " رحمه الله : قد روى أصحابنا عن الشافعي أنه قال يقرأ من خلفه وإن جهر بأم القرآن ( قال ) محمد بن عاصم وإبراهيم يقولان : سمعنا الربيع يقول : ( قال الشافعي ) : يقرأ خلف الإمام جهر أو لم يجهر بأم القرآن قال محمد وسمعت الربيع [ ص: 141 ] يقول : ( قال الشافعي ) : ومن أحسن أقل من سبع آيات من القرآن قام أو صلى منفردا ردد بعض الآي حتى يقرأ به سبع آيات فإن لم يفعل لم أر عليه يعني إعادة . ( قال الشافعي ) : وإن كان وحده لم أكره أن يطيل ذكر الله وتمجيده والدعاء رجاء الإجابة "

قال الماوردي : هذا كما قال اعلم أن الصلاة تشتمل على أفعال ، وأذكار ، أما الأفعال فواجب على المأموم اتباع إمامه فيها لقوله صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الإمام ليؤتم به فأما الأذكار فتنقسم ثلاثة أقسام : قسم يتبع إمامه فيه ، وهو التكبير ، والتوجه ، والتسبيح ، والتشهد ، وقسم لا يتبع إمامه فيه ، وهو في السورة بعد الفاتحة في صلاة الجهر فينصت المأموم لها ولا يقرؤها ، وقسم مختلف فيه وهو قراءة الفاتحة ، فإن كانت صلاة إسرار وجب على المأموم أن يقرأ بها خلف إمامه ، وإن كانت صلاة جهر فهل يجب أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : قاله في القديم ، وبعض الجديد لا يلزمه أن يقرأ بها خلفه في صلاة الجهر ، وإن لزمه في صلاة الإسرار ، وهو في الصحابة قول عائشة ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن الزبير ، رضي الله عنهم ، وفي التابعين قول عمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وفي الفقهاء قول مالك ، وأحمد

والقول الثاني : قاله في الجديد والإملاء ، وهو الصحيح من مذهبه أن عليه أن يقرأ خلف الإمام في صلاة الإسرار والجهر جميعا ، وبه قال من الصحابة : عمر وأبي بن كعب ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو عبادة بن الصامت ، رضي الله عنهم ، ومن التابعين سعيد بن جبير ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، والحسن البصري ، ومن الفقهاء الأوزاعي ، والليث بن سعد ، وقال أبو حنيفة : لا يقرأ خلف إمامه بحال لا في صلاة الجهر ، ولا في صلاة الإسرار ، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، رضي الله عنهم ، ومن التابعين الأسود ، وعلقمة ، وابن سيرين ، ومن الفقهاء الثوري : استدلالا بقوله سبحانه : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [ الأعراف : 204 ] . والقراءة تمنع مما أمر به من الإنصات

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا فكان أمره بالإنصات نهيا عن القراءة

وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ رجل خلفه فنهاه آخر فلما فرغا [ ص: 142 ] من الصلاة تنازعا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة وروى علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أأقرأ ؟ فقال : " ألا يكفيك قراءة الإمام وروى عمران بن الحصين : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القراءة خلف الإمام ، قال : ولأنها ركعة أتى بها على سبيل الاقتداء فوجب أن لا يلزمه فيها قراءة ، أصله إذا أدركه راكعا ، ولأنه لو لزمه القراءة لجهر بها كالإمام

والدليل على وجوب القراءة خلف الإمام رواية مكحول ، عن محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصامت : قال : كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة ، فلما فرغ قال : لعلكم تقرؤون خلف إمامكم . قلنا : نعم يا رسول الله . قال : لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها وروى أنس بن مالك قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد العشاءين فقرأ بعضهم خلفه ، فلما فرغ قال : فيكم من قرأ خلفي . فقال بعضهم أنا . فقال لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة إلا بها وروى سلمان الفارسي قال : قلت : يا رسول الله ، قرأت خلفك فقال : " يا فارسي لا تقرأ خلفي إلا بفاتحة الكتاب لأن من ساوى الإمام في إدراك الركن ساواه في إلزامه كالركوع ، ولأن من لزمه القيام بقدر القراءة لزمته القراءة مع الإمكان كالمنفرد ، ولأن من أدرك محل الفرض لزمه الفرض كالصلاة تلزمه بإدراك الوقت

فأما الجواب عن الآية فمن وجوه :

أحدها : أنها نزلت في الخطبة ، وهو قول عائشة ، رضي الله عنها ، وعطاء

والثاني : أن المراد بها ترك الجهر ، وهو محكي عن أبي هريرة

والثالث : قاله ابن مسعود قال : كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على [ ص: 143 ] فلان ، سلام على فلان ، فجاء القرآن : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا [ الأعراف : 204 ] ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم وإذا قرأ فأنصتوا . فيحمل على أحد أمرين ، إما على ترك الجهر ، وإما على ترك السورة بعد الفاتحة ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ففيه جوابان :

أحدهما : أن الكناية في قوله : " له " راجعة إلى الإمام دون المأموم ، لأنه أقرب مذكور

والثاني : أنه يحمل على ما عدا الفاتحة ، وإذا أدركه راكعا ، وكذا الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : "يكفيك قراءة الإمام "

وأما حديث عمران أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن القراءة خلف الإمام ، فيحمل على أحد أمرين ، إما على النهي عن الجهر ، وإما على النهي عن السورة ليصح استعمال الأخبار كلها

وأما قياسهم عليه إذا أدركه راكعا فلا يصح ، لأن ذلك مدرك بعض ركعة وإن جعله الشرع نائبا عن ركعة لا سنة على أن المعنى فيمن أدركه راكعا أنه لما لم يدرك محل القراءة لم تلزمه القراءة ، وأما ترك الجهر فلا يدل على ترك الأصل كالتكبيرات يجهر بها الإمام ، وإن لم يجهر بها المأموم ، فإذا ثبت أن أصح القولين وجوب القراءة على المأموم ، فيختار له أن يقرأ عند فراغ الإمام منها ، لأنه مأمور بسكتة بعدها ليقرأ المأموم فيها

روى سمرة بن جندب قال : حفظت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتة بعد التكبير وسكتة بعد أم القرآن

التالي السابق


الخدمات العلمية