الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 555 ] باب الوليمة والنثر ، من كتاب الطلاق إملاء على مسائل مالك

قال الشافعي ، رحمه الله : " الوليمة التي تعرف : وليمة العرس ، وكل دعوة على إملاك أو نفاس أو ختان أو حادث سرور ، فدعي إليها رجل ، فاسم الوليمة يقع عليها ، ولا أرخص في تركها ، ومن تركها لم يبن لي أنه عاص ، كما يبين لي في وليمة العرس ؛ لأني لا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة على عرس ، ولا أعلمه أولم على غيره ، وأولم على صفية رضي الله عنها في سفر بسويق وتمر ، وقال لعبد الرحمن أولم ولو بشاة .

قال الماوردي : وأما الوليمة ، فهي إصلاح الطعام واستدعاء الناس لأجله ، والولائم ست :

وليمة العرس : وهي الوليمة على اجتماع الزوجين .

ووليمة الخرس : وهي الوليمة على ولادة الولد .

ووليمة الإعذار : وهي الوليمة على الختان .

ووليمة الوكيرة : وهي الوليمة على بناء الدار . قال الشاعر :


كل الطعام تشتهي ربيعة الخرس والإعذار والوكيره

ووليمة النقيعة : وهي وليمة القادم من سفره ، وربما سموا الناقة التي تنحر للقادم نقيعة ، قال الشاعر :


إنا لنضرب بالسيوف رءوسهم     ضرب القدار نقيعة القدام

[ ص: 556 ] ووليمة المأدبة : هي الوليمة لغير سبب .

فإن خص بالوليمة جميع الناس سميت جفلى ، وإن خص بها بعض الناس ، سميت نقرى ، قال الشاعر :


نحن في المشتاة ندعو الجفلى     لا ترى الآدب فينا ينتقر

فهذه الستة ينطلق اسم الولائم عليها ، وإطلاق اسم الوليمة يختص بوليمة العرس ، ويتناول غيرها من الولائم بقرينة ؛ لأن اسم الوليمة مشتق من الولم ، وهو الاجتماع ؛ ولذلك سمي القيد الولم ؛ لأنه يجمع الرجلين ، فتناولت وليمة العرس ؛ لاجتماع الزوجين فيها ، ثم أطلقت على غيرها من الولائم تشبيها بها ، فإذا أطلقت الوليمة تناولت وليمة العرس ، فإن أريد غيرها ، قيل : وليمة الخرس ، أو وليمة الإعذار ، وقد أفصح الشافعي بهذا ، ثم لا اختلاف بين الفقهاء أن وليمة غير العرس لا تجب .

فأما وليمة العرس فقد علق الشافعي الكلام في وجوبها ؛ لأنه قال : " ومن تركها لم يبن لي أنه عاص ، كما يبين لي في وليمة العرس " .

فاختلف أصحابنا في وجوبها على وجهين ، ومنهم من خرجه على قولين :

أحدهما : أنها واجبة ؛ لما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر الخلوق ، فقال له : مهيم - أي ما الخبر - ؟ قال : أعرست ، فقال له : أولمت ؟ قال : لا ، قال : أولم ولو بشاة . وهذا أمر يدل على الوجوب ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنكح قط إلا أولم في ضيق أو سعة ، وأولم على صفية في سفره بسويق وتمر ، ولأن في الوليمة إعلان للنكاح ؛ فرقا بينه وبين السفاح ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف ، ولأنه لما كانت إجابة الداعي إليها واجبة ، دل على أن فعل الوليمة واجب ؛ لأن وجوب المسبب دليل على وجوب السبب ، ألا ترى أن وجوب قبول الإنذار دليل على وجوب الإنذار .

والثاني - وهو الأصح - : أنها غير واجبة ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس في المال حق سوى الزكاة ؛ ولأنه طعام لحادث سرور ، فأشبه سائر الولائم .

ولأن سبب هذه الوليمة عقد النكاح وهو غير واجب ، ففرعه أولى أن يكون غير واجب .

ولأنها لو وجبت لتقدرت كالزكاة والكفارات ؛ ولكان لها بدل عند الإعسار ، كما يعدل المكفر في إعساره إلى الصيام ، فدل على عدم تقديرها وبدلها على سقوط وجوبها .

[ ص: 557 ] ولأنها لو وجبت لكان مأخوذا بفعلها حيا ، ومأخوذة من تركته ميتا كسائر الحقوق ، وكان بعض أصحابنا يتوسط في وجوبها مذهبا معلولا ، ويقول هي من فروض الكفايات إذا أظهرها الواجد في عشيرته أو قبيلته ظهورا منتشرا سقط فرضها عمن سواه ، وإلا خرجوا بتركها أجمعين ، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن ما وجب من حقوق النكاح ، تعين كالولي والشاهدين .

والثاني : أن ما تعلق بحقوق الأموال الخاصة ، عم وجوبه كالزكوات ، أو عم استحبابه كالصدقات .

والثالث : أن فروض الكفاية مختص بما عم سنته كالجهاد ، أو ما تساوى فيه الناس كغسل الموتى ، وهذا خاص معين فلم يكن له في فروض الكفاية مدخل .

التالي السابق


الخدمات العلمية