الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
الدليل على جواز الخلع

والأصل في إباحة الخلع قول الله تعالى : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا [ البقرة : 229 ] وهذا خطاب للأزواج حذر الله تعالى عليهم أن يأخذوا من أزواجهم ما آتوهم من الصداق بغير طيب أنفسهم ، ثم قال : إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله . والخوف هاهنا بمعنى الظن ، وتقديره إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله ومنه قول الشاعر :


أتاني عن نصيب كلام يقول وما خفت يا سلام أنك عاتب

وفيما يخافا ألا يقيماه من حدود الله تأويلان :

أحدهما : هو كراهة كل واحد منهما لصاحبه وهذا قول ابن المسيب . [ ص: 4 ] والثاني : أنه من الزوجة ألا تطيع له أمرا ، ومن الزوج ألا يؤدي لها حقا .

ثم قال : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فيه تأويلان :

أحدهما : فيما افتدت به نفسها من الصداق الذي أعطاها لا غير ، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام .

والثاني : من جميع مالها وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما .

وقال تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا يعني من الصداق فكلوه هنيئا مريئا فإذا أباح أن يأخذ ما طابت به نفسا من غير طلاق كان بالطلاق أولى .

ويدل عليه من السنة ما رواه الشافعي عن مالك عنه يحيى بن سعيد عن عمرة أن حبيبة بنت سهل أخبرتها أنها كانت عند ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لصلاة الصبح فوجدها عند بابه بالغلس ، فقال : من هذه ؟ فقلت : أنا حبيبة بنت سهل . قال : ما شأنك ؟

قلت : لا أنا ولا ثابت لزوجها ، فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر ، فقالت حبيبة : يا رسول الله كل ما أعطاني عندي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ منها ، فأخذ منها ، وجلست في أهلها .
يعني خذ منها وطلقها . فدل هذا الحديث على أحكام منها : جواز استماع الدعوى على غائب .

ومنها : أن المدعي إذا عرف الدعوى لم يحتج الحاكم أن يعيدها عليه .

ومنها : جواز الخلع وإن كان الزوج قد ضربها ، وإذا لم يكن الضرب لأجل الخلع .

ومنها : جواز الخلع في الحيض والطهر لأنه لم يسأل عن حالها .

ومنها : أنه لا رجعة على المختلعة لأمره لها بالجلوس في أهلها .

فدل ما ذكرناه من الآية والخبر على جواز الخلع وهو قول الجماعة وحكي عن بكر بن عبد الله المزني أن الخلع منسوخ بقوله تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا فدلت هذه الآية على تحريم الخلع ونسخ ما تقدم من إباحته ، وهذا خطأ ، لأن هذه الآية منعت من أخذ ما لم تطب به نفسا ولم تمنع مما بذلته بطيب نفس واختيار كما قال : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل أن الربيع بنت [ ص: 5 ] معوذ بن عفراء حدثته قالت : كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضر ، ويحرمني إذا غاب ، قالت : وكانت مني زلة يوما ، فقلت : أخلع منك بكل شيء أملكه ، قال : نعم ، قالت : ففعلت فخاصم عني معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ ما دون عقاص الرأس .

وروى أيوب عن كثير مولى سمرة أن عمر بن الخطاب أتي بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل فحبسها فيه ثلاثا ثم دعاها ، فقال كيف وجدت مكانك ؟ قالت : ما وجدت راحة مذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني ، فقال لزوجها : اختلعها ولو من قرطها .

وهذه قضية إمامين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع لم يخالفهما فيها من الصحابة أحد ، فدل على إجماعهم على ثبوت حكمه ، ولأنه لما جاز أن يملك الزوج البضع بعوض ، جاز أن يزيل ملكه عنه بعوض كالشراء والبيع ، فيكون عقد النكاح كالشراء والخلع كالبيع .

التالي السابق


الخدمات العلمية