الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا صح أن الطلاق لا يقع إلا بالقول . فالألفاظ فيه تنقسم ثلاثة أقسام : قسم يكون صريحا فيه ، والصريح ما وقعت به الفرقة من غير نية ، وقسم يكون كناية فيه . والكناية ما وقعت به الفرقة مع النية ولم تقع به من غير نية ، وقسم لا يكون صريحا فيه ولا كناية : وهو ما لا يقع به الفرقة سواء كانت معه نية أو لم تكن .

فأما صريح الطلاق فهو على مذهب الشافعي ثلاثة ألفاظ : الطلاق والفراق والسراح وقال أبو حنيفة : صريح الطلاق لفظة واحدة وهي الطلاق دون الفراق والسراح استدلالا بأن كل لفظ تعارف الناس استعماله في الطلاق وغير الطلاق ، لم يكن صريحا [ ص: 151 ] في الطلاق ، قياسا على قوله أنت علي حرام ، وقد تعارف الناس استعمال الفراق والسراح في غير الطلاق ، فلم يكن صريحا في الطلاق .

ودليلنا هو : أن كل لفظ ورد به القرآن قصد الفرقة بين الأزواج كان صريحا فيها كالطلاق ، وقد ورد القرآن بهذه الألفاظ الثلاثة . أما الطلاق فبقوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] . وبقوله : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] . وغير ذلك .

وأما السراح فبقوله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقال فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا [ الأحزاب : 28 ] . وأما الفراق فبقوله : فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق : 2 ] اعترضوا على هذه الدلالة ، وهي دلالة الشافعي بخمسة أسئلة :

أحدها : أن قالوا : هذا منتقض بالفدية ، قد ورد بها القرآن في الفرقة بقوله : فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] . وليس بصريح في الطلاق فعنه جوابان :

أحدهما : أن الفدية لفظ صريح في حكمه أنه فسخ أو طلاق على أحد القولين .

والثاني : أن مقصود الفدية استباحة مالها به ، بعد أن كان محظورا قبله بقوله : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا [ النساء : 20 ] . فنسخ بقوله : فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] .

والسؤال الثاني : أن قالوا : الكناية قد ورد بها القرآن في العتق بقوله : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] . والفك قد ورد به القرآن في العتق بقوله : وما أدراك ما العقبة فك رقبة [ البلد : 12 ، 13 ] . وليس الكناية والفك من صريح العتق وكذلك السراح والفراق جاز وإن ورد بهما القرآن أو لا يكون من صريح الطلاق ، فعنه جوابان :

أحدهما : ليس يلزم إذا كان ما ورد به القرآن في الطلاق صريحا ، أن يكون ما ورد به القرآن في الطلاق صريحا ولا يكون افتراقهما فيه مانعا من أن يختص كل واحد منهما بحكمه .

والثاني : أن الكناية المراد بها العقد المكتوب بين السيد وعبده دون العتق وهي صريح فيه ، وأما فك الرقبة ، فلنزول ذلك سبب ، وهو أن أبا الأشد ابن المحيي كان ذا قوة يدل بها فأنزل الله تعالى فيه : أيحسب أن لن يقدر عليه أحد إلى قوله : فلا اقتحم العقبة [ البلد : 11 ] . أي أنه وإن دل بقوته فليس يقدر على اقتحام العقبة ، إلا [ ص: 152 ] بفك رقبة ، فخرج مخرج الخبر عن صفة مقتحمها ، ولم يخرج مخرج الأمر فيصير بذلك معتقا لها .

والسؤال الثالث : أن السراح لو كان صريحا كالطلاق ، لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى : الطلاق مرتان عن الثالثة حتى بين فقال : أو تسريح بإحسان ولكان السائل يعلم أنه صريح فيستغني عن السؤال .

فالجواب عنه : أن صريح الطلاق وكنايته من الأحكام الشرعية التي تخفى عن أهل اللغة فسأله ليعلم صريح الشرع دون اللغة ، وذلك مما لا يستغني عنه أحد .

والسؤال الرابع : أن الطلاق إنما كان صريحا ، لأن القرآن ورد به ، ولكن لأنه لا يستعمل في غير الفرقة ، لذلك صار صريحا ، والفراق والسراح قد يستعملان في غير الفرقة فكانا كناية .

قيل : قد يستعمل الطلاق في غير الفرقة ، فيقال : فلان قد طلق الدنيا ، إذا زهد فيها وطلقت فلانا من وثاقه ، وقد داعب الشافعي بعض إخوانه فقال .


اذهب حصين فإن ودك طالق مني وليس طلاق ذات البين

فما أنكر ذلك أحد من أهل اللغة ، فلما لم يمنع من استعمال الطلاق في غيره أن يكون صريحا فيه ، كذلك الفراق والسراح .

والسؤال الخامس : أن الطلاق كان صريحا لكثرة استعماله ، والفراق والسراح يقل استعمالهما فكانا كناية ، قيل : الصريح حكم شرعي فاقتضى أن يراعى فيه عرف الشرع لا عرف الاستعمال ، وهما في عرف الشرع كالطلاق ، وإن خالفاه في عرف الاستعمال . وقياس ثان : وهو أن إزالة الملك إذا سرى لم يقف صريحه على لفظ واحد كالعتق . وقياس ثالث : وهو أن الطلاق أحد طرفي النكاح ، فوجب أن يزيد صريحه على لفظه واحدة كالعقد ، وقياس رابع : وهو أن كل لفظ لا يفتقر في الطلاق عند الغضب والطلب إلى نية الطلاق كان صريحا فيه كالطلاق ، وقياس خامس : أنه أحد نوعي الطلاق فلم يقف على لفظة واحدة ، كالكناية لأن الطلاق صريح وكناية .

فأما الجواب عن قياسهم فقد مضى في أجوبة الأسئلة ثم المعنى في الأصل أنه لم يرد به القرآن والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية