الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الفصل الرابع : وهو إذا نوى بصريح الطلاق ثلاثا ، فقال : أنت طالق ، ونوى الثلاث كانت ثلاثا ، ولو نوى اثنتين كانت اثنتين ، فيحمل صريح الطلاق على ما نوى من عدده ، وقال أبو حنيفة : لا يقع بصريح الطلاق إلا واحدة ، ولو قال : أنت طالق ينوي طلقتين أو ثلاثا لم تقع إلا واحدة ، إلا أن يتلفظ بالعدد نطقا ، أو يقول أنت طالق ناويا الثلاث فتطلق ثلاثا وفرق بين قوله : أنت طالق ينوي ثلاثا فيطلق واحدة ، وبين قوله : أنت طالق وينوي الثلاث ، فيطلق ثلاثا ، بأن الطلاق مصدر يحتمل العدد ، قال الله تعالى : الطلاق مرتان .

وقوله : أنت طالق إخبار عن صفة ، لا تحتمل العدد كما لا تحتمل دخول العدد في قولهم أنت قائم وقاعد وراكع وساجد وجعل هذا الفرق بينهما دليلا .

قال : ولأن الطلاق صريح في الواحد فلم يجز أن يجعل كناية في الثلاث ، لأنه يؤخر إلى أن يكون اللفظ الواحد في الجنس الواحد صريحا وكناية في حال واحدة وهذا فاسد ودليلنا أن قوله : أنت طالق ، عند أهل العربية اسم فاعل ، لأنهم يقولون طلقت فهي طالق كما قالوا حاضت فهي حائض ، وضربت فهي ضارب ، واسم الفاعل يحتمل العدد ، لأنه يجب أن يفسر بأعداد المصادر ، فيقال : أنت طالق طلقتين ، وأنت طالق ثلاث تطليقات ومائة طلقة وضارب مائة ضربة ، ولو كان الاسم لا يتضمن أعداد مصادره ، فأحسن أن يعتبر به كما لا يحسن أن يقال : أنت ضارب طلقة ، وقائم قعدة . ولذا تضمن العدد بدليل ما ذكرنا ، جاز أن يقع به الثلاث ، كما يقع بقوله : أنت الطلاق .

وتحريره قياسا : أن كل لفظ جاز أن يكون العدد فيه مظهرا ، جاز أن يكون العدد فيه مضمرا ، كالمصدر إذا قال : أنت الطلاق .

ودليل ثان : وهو أنه لو قال : أنت طالق ثلاثا وقعت الثلاث ، بقوله أنت طالق وكان قوله ثلاثا تفسيرا للعدد المضمر فيه ، ألا تراه لو قال لغير مدخول بها ، أنت طالق [ ص: 163 ] ثلاثا طلقت ثلاثا ولو كانت الثلاث لا تقع إلا باللفظ الأول ، لما وقع عليها إلا واحدة ، لأن غير المدخول بها لا تطلق بلفظ بعد لفظ ، لأنه لو قال : أنت طالق وطالق وقعت الأولى ولم تقع الثانية ، وإذا جاز أن يكون العدد فيه مضمرا فيه ، إذا أظهره ، جاز أن يكون مضمرا فيه إذا نواه .

وتحريره قياسا : أن كل عدد جاز أن يتضمنه مصدر الطلاق ، جاز أن يتضمنه اسم الطلاق كالمظهر .

ودليل ثالث : وهو أنه لو قال : أنت طالق ، وأشار بأصابعه الثلاث ، طلقت ثلاثا ونية الثلاث أقوى من إشارته بالثلاث ، لأن الكناية تعمل فيها النية ، ولا تعمل فيها الإشارة فلما وقعت الثلاث بالإشارة ، فأولى أن تقع بالنية ، وأما استدلاله بأن قوله : أنت طالق إخبار عن صفة ، لا تتضمن عددا فهو خطأ ، لما ذكرنا أنه اسم يحتمل العدد بما بيناه من جواز قوله : أنت طالق ثلاثا ، وقوله : أنت حائض وطاهر وقائم وقاعد ، فهو مما لا يجوز أن يجتمع منه عدد في حالة واحدة ، فلم يتضمن العدد ، وليس كذلك الطلاق : لأنه لا يصح أن يجتمع منه العدد في حالة واحدة ، فجاز أن يتضمن العدد ، كما يجوز أن يقول : أنت عالم علمين ، وجائر جورين فيجوز أن يتضمنه العدد .

وأما استدلاله بأنه صريح في الواحدة ، فلم يجز أن يكون كناية في الثلاث ، فغير مسلم ، لأنه إذا نوى الثلاث ، كان صريحا فيها ، ولم يكن صريحا في واحدة ، كناية في اثنتين فلم يسلم لهم الاستدلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية