الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الكناية وهو أن يكتب بخط يده ، أنت طالق ، أو قد طلقتك ، أو أنت مطلقة فقد اختلف الناس فيما حكي عن الشافعي وأحمد بن حنبل : أنها صريح في وقوع الطلاق بها لا يفتقر إلى نية كالكلام ، لأن الله تعالى قد أنذر بكتبه فقال تعالى : لأنذركم به ومن بلغ [ الأنعام : 91 ] . وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة بمكاتبة مع كاتبه ، ولأنها تقوم في الإفهام مقام الكلام ، ثم هي أعم من إفهام الحاضر والغائب من الكلام المختص بإفهام الحاضر دون الغائب ، ولأن العادة جارية باستعمالها في موضع الكلام ، فاقتضى أن يكون جارية في الحكم مجرى الكلام ، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - قد جمعوا القرآن في المصحف خطا ، وأقاموه مقام تلفظهم به نطقا ، حتى صار ما تضمنه إجماعا لا يجوز خلافه ، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الكتابة ليست صريحا في الكلام ، ولا يجري عليها حكم الصريح من الكلام ، لأن الله تعالى قد أرسل رسوله نذيرا لأمته ومبلغا لرسالته فقال تعالى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا [ البقرة : 199 ] . فلو كانت الكتابة كالكلام الصريح ، لمكن الله تعالى رسوله منها ، ولعلمه إياها ليكون مع تكليف الإنذار ممكنا من آلائه ، وكاملا لصفاته ، ومعانا عليه من سائر جهاته ، حتى لا يناله نقص فيقصر ، ولا ضعف فيعجز ، ولكان لا يبعث رسولا ، [ ص: 168 ] إلا أميا لا يكتب ، وإن تكلم ، كما لا يبعث رسولا أخرس ، لا يتكلم وإن كتب ، وفي فحوى هذا دليل على خروج الكتابة من صريح الكلام ، ولأنها لو قامت مقام صريح الكلام لأجزأ من كتب القرآن في الصلاة عن أن يتكلم به في الصلاة ، ولاقتضى من المرتد إذا كتب الشهادتين عن أن يتكلم بالشهادتين ، وفي امتناعنا من ذلك خروج الكتابة من حكم الكلام ، ولأنه لو كانت الكتابة صريحا كالكلام لصح بها عقد النكاح ، كما يقع بها فيه الطلاق ، وفي إجماعنا على أن عقد النكاح بها لا يصح دليل على خروجهما من صريح الكلام في الطلاق ، فإذا تقرر أن ليست الكتابة صريحا في الطلاق ، فقد اختلف قول الشافعي ، هل يكون كناية فيه أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : وأشار إليه في كتاب الرجعة .

وقال به أبو إسحاق المروزي من أصحابنا : أنها لا تكون كناية ، ولا يقع بها طلاق وإن نواه ، لأنها فعل فأشبهت سائر الأفعال ، ولأن كتابة اليد ترجمان اللسان ومعبر عنه كما أن كناية الكلام ترجمان القلب ومعبر عنه فلما لم تقم الكتابة مقام الصريح إلا بنية القلب لم تقم الكناية مع الكلام إلا بنطق اللسان .

والقول الثاني : وهو الصحيح نص عليه هاهنا وفي الإملاء ، وقال أبو حنيفة ومالك : إن الكتابة كناية في وقوع الطلاق بها مع النية ، ولا يقع بها الطلاق إن تجردت عن النية ، لأنها نقص عن الكلام لاحتمالها وتخالف الأفعال لإفهام المخاطب بها ، ولأن العرف في استعمالها أنها بدل من الكلام ، تقتضي أن يتعلق عليها بعض أحكام الكلام ، فصارت كالمحتمل فيه من اعتبار النية فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية